والعلم والصلاح يقول لي كذا وكذا سنة فذكر مدة طويلة قلَّ من يعيشها. وفي كل سنة يدخل مكة من العلماءِ جمع كثير ففيهم من يجاور ويقيم وفيهم من يذهب إلى بلده فما رأَيت أحداً فيهم إلا ونور الكعبة وعظمتها يزيد عليهِ إلا ما كان من ابن عجيل فإنه متى دخل الحرم زاد نوره وعظمته على نور الكعبة بحيث لا يبقى للناس تعلق بغيره. ثم كان متى قدم المدينة فعل الناس معهُ كذلك فيقول لهم اتقوا الله هذا نبيكم وهؤلاء صحابته وإنما أنا رجل منكم فلا يزداد الناس إلا إقبالاً عليهِ. وكان إذا ضجر من الناس بمكة والمدينة يغيب عنهم لقضاء مأَربهِ من قراءَة أَذكر أَو صلاة وهذا غالب شغله. وكان إماماً في الفقه والأصولين والنحو واللغة والحديث والفرائض وهو أحسن من ضبط الفنون وقرَّت بمذاكرته العيون.
قال الجندي وأخبرني الثقة من فقهاء عصره أنه قال ارتحلت من بلدي إلى الفقيه أزورهُ وكنت قد أعددت مسائل فقهية وأصولية وكلامية. فلما وصلت إلى الفقيه وسلمت عليه واطمأَن بي المجلس أَقبلت اسأَلهُ عن الفقهيَّة وهو يجيبني ثم عن الأصولية وهو أيضاً يجيبني ثم عن الكلامية فقال أمهلني فأضمرت في نفسي قصوره عن ذلك. ثم لما انفض المجلس وكان حافلاً دخل الفقيه منزله ثم استدعى بي إليه وقال أن العقول لا تكاد تحتمل جواب ما سأَلت عنهُ وربما حصل بيننا مراجعة واعتراضات تشوّيش على بعض السامعين لكن هات السؤَال الأول فأوردتهُ فجاوَب عليه جواباً شافياً ثم أوردت بقية الأسئلة فجاوَب عليها كذلك فحمدت الله تعالى على ذلك وعظم عندي وله مسائل كثيرة سأَلهُ عنها عدة من الفقهاء الإجلاء فأجابهم بأحسن جواب وأَبينه. ولم يكد أحد من فقهاء عصره إلا افتقر إلى فقهه ومعرفته ولم يسمع أنه افتقر إلى معرفة أحد منهم في جواب ولا سؤَال. ولم يزل على ما ذكرنا من التدريس ومجاهدة النفس إلى أن توفي يوم الثلاثاء بين صلاتي الظهر والعصر لخمس بقين من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.
وكان الملك الواثق إبراهيم بن الملك المظفر يومئذ في مدينته فشال وكانت يومئذٍ إقطاعه من أبيه وهو على نصف مرحلة من بيت الفقيه تقريباً فلما علم بوفاة