ونموذجاً أيضاً لمدى التيقظ والحِذْر الذي كان يتمتَّع به علماؤنا، مع نُصْفَة في البحث وعدالة في القول، دون مُحاباةٍ ولا شططٍ. وإنما هو البحث العلمي، والمنهج الأكاديمي الذي يرى المستشرقون أنهم أرسوا دعائمه في العصر الحديث - مع تحفظنا على هذا الرأي -.
تَدْوِينُ السُنَّةِ:
من المشتهر في كتب مصطلح الحديث أنهم يبحثون في تدوين الحديث الشريف، متى بدأ وقد ذُكرت روايات تثبت أن التدوين للحديث كان منهياً عنه أثناء تنزُّل القرآن الكريم. وأُخرى تثبت أنَّ هناك من دَوَّنَ الحديث كما سمعه من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والقرآن ينزل.
أمام هذا التعارض في الظاهر، وليس في نفس الأمر، أعمل الأئمة رضوان الله عليهم مناهج النقد، ومناهج الجمع عند التعارض، ومالوا إلى أن النهي عن الكتابة كان في بداية الإسلام خوفاً من اختلاط صحف الحديث بصحف القرآن الكريم. فلما أُمِن اللبس أَذِنَ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكتابة. واعتبروا الإذن المتأخر ناسخاً للمنع المتقدم.
... هذا خلاصة ما ذهب إليه العلماء في المسألة. وعليه درج كل من دَوَّنَ في المصطلح وتناول الموضوع. إلى أنْ جاء عصر المستشرقين الذين بدؤوا بالتنقير عمَّا يظنُّونه فجوات يَلِجُونَ منها إلى التشكيك بمصادرنا ونصوصنا وصولاً إلى رفضها " علمياً " كما يظنُّون، وبخاصة أنَّ المسلمين، طبعاً العلماء منهم، كانوا قد ابتكروا علماً لضبط المرويات هو علم الإسناد، فأخضعوا كل خبر يحتمل الصدق والكذب لذاته للتحليل والتمحيص بناءً على قواعد هذا العلم. ومن النصوص التي عُرِضَتْ النصوص الدينية الموروثة في أوروبا، والتي جاءت بناءً على قواعد هذا العلم مقطوعة انقطاعاً بَيِّناً عن أصولها، بل ومعضلةً إعضالاً شديداً.
... فأراد المستشرقون تبيان أنَّ ما قيل في نصوصهم يصدق على الكثير من النصوص الحديثية، فاستخدموا العلم الذي وضعه المسلمون لتمحيص المرويات في هجوم مضاد على مصادرنا الحديثية والتاريخية. فوجدوا نصوصاً تضاربت في أفهامهم حسبوها فجوةً يمكن أنْ يَلِجُوا منها إلى مرادهم.
ولتبديد هذا الوهم، كتب عالمنا «الصَّالِحْ» الفصل الأول من كتابه " علوم الحديث " لأجل هذه القضية بالذات. فبدأ بموضوع تدوين الحديث (٨)، فتكلم عن معرفة العرب للكتابة قبيل الإسلام، وبخاصة في مكة