ومنه هذه التي عندنا. (لَوْلَا) أي: نطلبُ منكَ بِحَضٍّ وَحَثٍّ أن تنزلُ عليكَ آيةٌ مثلُ آيةِ موسى التي جَاءَتْ، صَارَتْ عَصَاهُ ثعبانًا مُبِينًا، وكآيةِ صالحٍ التي خَرَجَتْ له ناقة عشراءَ جوفاءَ وَبْراءَ مِنْ صخرةٍ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، وكآيةِ عيسى الذي يُبْرِئُ الأكمهَ والأبرصَ وَيُحْيِي الموتَى بإذنِ اللَّهِ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، وهذا طلبٌ منهم وتحضيضٌ، وهو طلبٌ بِحَثٍّ وَحَضٍّ، إلا أنه طَلَبُ عِنَادٍ وَتَعَنُّتٍ.
الثالثُ: من معانِي (لَوْلَا)، لم نتكلم عليه الآنَ، وهو أن (لَوْلَا) التحضيضيةَ - ومعنى التحضيضيةِ: أنها دَالَّةٌ على تحضيضٍ، والتحضيضُ: هو طلبُ الفعلِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ - لها حالتانِ: تارةً يكونُ فِعْلُهَا المطلوبُ بها مُمْكِنُ الفعلِ لَمْ تَضِعْ فُرْصَتُهُ، فهذه هي التحضيضيةُ، كالتي عِنْدَنَا. وتارةً
يكونُ فِعْلُهَا المطلوبُ فيها بأداةِ الطلبِ التي هي حرفُ التحضيضِ - أعني (لَوْلَا) - فَاتَ وَلَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهُ؛ لأن فرصتَه ضَاعَتْ ولم يُمْكِنْ تداركُه. فإن التحضيضيةَ في هذه الحالةِ يَنْقَلِبُ معنَى تحضيضِها إلى توبيخٍ وتنديمٍ على التفريطِ فيما مَضَى (١)، كقولِه:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا}[يونس: آية ٩٨] فتلك الْقُرَى الماضيةُ هَلَكَتْ وَمَضَتْ، إلا أن توبيخَ اللَّهِ لها، وتنديمَه لها بعدَ أن مَاتَتْ لِيَعْتَبِرَ به غيرُها، وكما قال:{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا}[النور: آية ١٦] لأَنَّ الفرصةَ فَاتَتْ عليهم؛ لأنهم تَكَلَّمُوا بما لا يَلِيقُ، فَصَارَتْ (لَوْلَا) التحضيضيةُ في شَأْنِهِمْ يُرَادُ بها التوبيخُ والتنديمُ على التفريطِ فيما مَضَى.