للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لما امتنعوا أن يقبلوا ما في التوراة {كَأَنَّهُ} أي: الجبل الذي هو الطور {ظُلَّةٌ} كأنه غمامة أو مُزنة تظلهم من فوق رؤوسهم، فخافوا أن يسقط عليهم فالتزموا ما في التوراة.

وقوله: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} مَحْكِيُّ قَوْلٍ محذوف، والمقرر في علم العربية: أن حذف القول وبقاء مقوله قياسي مُطَّرد معروف لا تكاد تحصيه في لغة العرب وفي القرآن العظيم، أمّا عكسه -وهو ثبوت القول وحذف المقول- فهو نادر يُحْفَظ ولا يُقَاس عليه. قال بعض علماء العربية: ومنه قول الشاعر (١):

لَنَحْنُ الأُلى قُلْتْمْ فَأَنَّى مُلِئْتُمْ ... بِرُؤْيَتِنَا قَبْلَ اهْتِمَامٍ بِكُمْ رُعْبَا

قال: (قلتم) هنا حذف مقوله، أي: قلتم: نقاتلهم فأنى ملئتم رعبًا منا قبل أن نقاتلكم. وهذا معنى قوله: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم}.

{مَا آتَيْنَاكُم} معناه: أعطيناكم في هذا الكتاب المشتمل على خير الدنيا والآخرة، وصيغة الجمع في قوله: {آتَيْنَاكُم} للتعظيم {بِقُوَّةٍ} أي: بعزم وجدٍّ واجتهادٍ.

ويُفْهَم من هذه الآية أنَّه يجب على من خوطب بأوامر الله في كتبه المنزلة أن يلتزمها بقوةٍ ونشاطٍ واجتهادٍ، فلا يضعف فيها، ولا يُفَرط فيها؛ لأنها لا تُمْتَثَل على الوجه الأكمل إلا بالقوة والجد والاجتهاد -أعاننا الله على امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والقيام بما في كتابه- وهذا معنى قوله: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} وهو هذا الذي آتيناكم؛ يعني: التوراة اذكروا ما فيه من العقائد والأوامر والنواهي، اذكروه ذِكْرَ مدارسة وعمل، فتعلموا ما فيه،


(١) البيت في البحر المحيط (٥/ ١٨١)، الدر المصون (٦/ ٢٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>