للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية ٥] بِأَنْ خَتَمَ عليها وطبعَ وَمَنَعَهَا من الخيرِ، وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية ١٥٥] أي: بسببِ كُفْرِهِمْ، فالباءُ سببيةٌ، بَيَّنَتْ أن سببَ ذلك الطبعِ هو كفرٌ سابقٌ. وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: آية ١١٠] أي: نُقَلِّبُهَا كي لا تسمعَ الحقَّ أو تُبْصِرَهُ {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} لَمَّا سَارَعُوا وَبَادَرُوا إلى الكفرِ طَمَسْنَا على قلوبِهم، كما بَيَّنَهُ في قولِه: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: آية ١٤] فَبَيَّنَ أن ذلك (الرَّانَ) الذي غَطَّى القلوبَ وَمَنَعَهَا من الفهمِ سببُه ما كانوا يكسبونه من الشَّرِّ والكفرِ والمعاصي - والعياذُ بالله - ولذا قال تعالى هنا: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} قولُه: {فِي الظُّلُمَاتِ} كأنه يقولُ: (عمي)، (صمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، إلا أنه عبَّر عن عَمَاهُمْ بكونِهم {فِي الظُّلُمَاتِ}؛ لأن الذي هو في الظلماتِ لا يُبْصِرُ شيئًا، و {فِي الظُّلُمَاتِ}: جمع ظُلْمَةٍ.

وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مرارًا: أن مِنْ أصعبِ المسائلِ شُبْهَةَ الجبرِ وَالْقَدَرِ (١)، هي من أصعبِ المسائلِ، وأن القرآنَ أشارَ إليها في آياتٍ؛ لأن كثيرًا من الْجَهَلَةِ والملحدين يقولون: «إن كان اللَّهُ هو الذي يشاءُ أفعالَ العبدِ، وهو الخالقُ لِكُلِّ شيءٍ - ومنه أفعالُ العبدِ - وأفعالُ العبدِ بِمَشِيئَتِهِ، فكيف يُعَاقَبُ العبدُ المسكينُ على شيءٍ شَاءَهُ اللَّهُ، وَخَلَقَهُ اللَّهُ؟ فالعبدُ إِذَنْ لَا يُؤَاخَذُ بشيءٍ»!! فَلأَجْلِ هذه الشبهةِ ضَلَّتِ القدريةُ - والعياذُ باللَّهِ - فقالوا: إن العبدَ يستقلُّ بأعمالِ نفسِه. زَاعِمِينَ أن قدرةَ العبدِ مستقلةٌ بأعمالِه بلا تأثيرٍ لقدرةِ اللَّهِ فيها، فَفَرُّوا


(١) انظر: ما استدل به كل فريق والجواب عنها في (القضاء والقدر) للمحمود (٢١٧ - ٢٤٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>