للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ونحن ندعو ينبغي علينا أن ندعو بما نجد قلوبنا عنده، ولم يرد في السنة الصحيحة التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -» (١).

فإذا كان المفتي قد نقض الإجماع الذي ادعاه، واعترف بأن هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء، فلماذا ينكر على السلفيين أنهم منعوا من التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد اعترف هو نفسه أن هذا التوسل لم يرد في السنة الصحيحة.

ثانيًا: ادعى المفتي أن المذاهب الأربعة اتفقت على جواز التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بل استحباب ذلك وأنه لم يشذ إلا ابن تيمية، وللرد على المفتي نكتفي هنا بنقل قولين لأحد الأئمة الأربعة يؤيد فيهما كلام السلفيين في المنع من التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره.

قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: «لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استُفِيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف:١٨٠) (٢).

وقال أيضًا - رحمه الله - (٣): «يُكْرَه (٤) أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام».


(١) فتاوى عصرية (ص٣٣٥)، فتاوى البيت المسلم (ص٤٢٠).
(٢) الدر المختار من حاشية رد المحتار لابن عابدين الحنفي (٦/ ٣٩٦ - ٣٩٧)، وما أظن المفتي يجرؤ أن يتهم الإمام أبا حنيفة - رحمه الله - بالتشدد كما اتهم السلفيين.
(٣) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص٢٣٤) , إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين للزبيدي الحنفي (٢/ ٢٨٥) , وشرح الفقه الأكبر للملا علي القاري الحنفي (ص١٩٨).
(٤) قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ - وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا - لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ. فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [(النحل:١١٦)، وَحَكَى مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى. فَإِذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا: أَكْرَهُ هَذَا، وَلَا أُحِبُّ هَذَا، وَهَذَا مَكْرُوهٌ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ» (الاعتصام (٢/ ٥٣٧ - ٥٣٨).
وقال الإمام ابن القيم: «قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا، وَلَا أَدْرَكْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ، وَمَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ كَذَا، وَنَرَى هَذَا حَسَنًا؛ فَيَنْبَغِي هَذَا، وَلَا نَرَى هَذَا»، وَرَوَاهُ عَنْهُ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَزَادَ: «وَلَا يَقُولُونَ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: ٥٩)، الْحَلَالُ: مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ».
قُلْت (القائل الإمام ابن القيم): «وَقَدْ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَئِمَّتِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَيْثُ تَوَرَّعَ الْأَئِمَّةُ عَنْ إطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ، وَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْكَرَاهَةِ، فَنَفَى الْمُتَأَخِّرُونَ التَّحْرِيمَ عَمَّا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْكَرَاهَةَ، ثُمَّ سَهُلَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ الْكَرَاهَةِ وَخَفَّتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَتَجَاوَزَ بِهِ آخَرُونَ إلَى كَرَاهَةِ تَرْكِ الْأَوْلَى، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ؛ فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَعَلَى الْأَئِمَّةِ».
ثم ذكر الإمام ابن القيم أمثلة كثيرة منها قول الإمَامِ أحْمَدَ: «لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُ مَا ذُبِحَ لِلزَّهْرَةِ وَلَا الْكَوَاكِبِ وَلَا الْكَنِيسَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (المائدة:٣).
فَتَأَمَّلْ كَيْف قَالَ: «لَا يُعْجِبُنِي» فِيمَا نَصَّ اللهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَاحْتَجَّ هُوَ أَيْضًا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ لَهُ فِي كِتَابِهِ» [انظر: إعلام الموقعين (١/ ٤٠ - ٤١)].
ومما يوضح كلام الإمامين الشاطبي والنووي أن الإمام الترمذي قال في سننه: «بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إِتْيَانِ الحَائِضِ»، وذكر فيه قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَتَى حَائِضًا، أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ». [سنن الترمذي (١/ ١٩٩)، والحديث صححه الألباني].
فهل يُعقل أن يستدل الإمام الترمذي بالحديث على الكراهة التنزيهية؟!!

<<  <   >  >>