للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَاِتِّخَاذُ الْقَبْرِ مَسْجِدًا مَعْنَاهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَوْ إلَيْهِ، ...

قَالَ أَصْحَابُنَا (١): «تَحْرُمُ الصَّلَاةُ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ تَبَرُّكًا وَإِعْظَامًا»، فَاشْتَرَطُوا شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ قَبْرَ مُعَظَّمٍ وَأَنْ يَقْصِدَ بِالصَّلَاةِ إلَيْهِ - وَمِثْلُهَا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ - التَّبَرُّكَ وَالْإِعْظَامَ، وَكَوْنُ هَذَا الْفِعْلِ كَبِيرَةً ظَاهِرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ ...

قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: «قَصْدُ الرَّجُلِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْقَبْرِ مُتَبَرِّكًا بِهَا عَيْنُ الْمُحَادَّةِ لِلهِ وَرَسُولِهِ، وَإِبْدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا ثُمَّ إجْمَاعًا، فَإِنَّ أَعْظَمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ أَوْ بِنَاؤُهَا عَلَيْهَا.

وَالْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ (٢) مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ إذْ لَا يُظَنُّ بِالْعُلَمَاءِ تَجْوِيزُ فِعْلٍ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَعْنُ فَاعِلِهِ، وَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِهَدْمِهَا وَهَدْمِ الْقِبَابِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ إذْ هِيَ


(١) أي علماء الشافعية.
(٢) قال الشيخ الألباني: «وقوله فيما نقله عن بعض الحنابلة: «والقول بالكراهة محمول على غير ذلك»، كأنه يشير إلى قول الإمام الشافعي في كتابه [الأم (١/ ٢٤٦)] ما نصه: «وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى، أو يصلى عليه، وهو غير مُسَوًّى، وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
وعلى هذا أتباعه من الشافعية، ومن الغريب أنهم يحتجون على ذلك ببعض الأحاديث المتقدمة، مع أنها صريحة في تحريم ذلك، ولَعْنِ فاعلِه، ولو أن الكراهة كانت عندهم للتحريم لقرب الأمر، ولكنها لديهم للتنزيه فكيف يتفق القول بالكراهة مع تلك الأحاديث التي يستدلون بها عليها؟!
أقول هذا، وإن كنتُ لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية؛ لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني، ولا شك أن الشافعي متأثر بأسلوب القرآن غاية التأثر، فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه، لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين، فقد قال تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (الحجرات:٧)، وهذه كلها محرمات، فهذا المعنى ـ والله أعلم ـ هو الذي أراده الشافعي - رحمه الله - بقوله المتقدم: «وأكره»، ويؤيده أنه قال عقب ذلك: «وإن صلى إليه أجزأه، وقد أساء»؛ فإن قوله: «أساء» معناه ارتكب سيئة، أي حرامًا، فإنه هو المراد بالسيئة في أسلوب القرآن أيضًا، فقد قال تعالى في سورة (الإسراء) بعد أن نهى عن قتل الأولاد، وقربان الزنى، وقتل النفس وغير ذلك: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (الإسراء:٣٨) أي محرمًا.
ويؤكد أن هذا المعنى هو المراد من الكراهة في كلام الشافعي في هذه المسألة أن مذهبه أن الأصل في النهي التحريم، إلا ما دل الدليل على أنه لمعنى آخر، كما صرح بذلك في رسالته [جماع العلم (ص١٢٥)] ونحوه في كتابه [الرسالة (ص٣٤٣)]، ومن المعلوم لدى كل من درس هذه المسألة بأدلتها أنه لا يوجد أي دليل يصرف النهي الوارد في بعض الأحاديث المتقدمة إلى غير التحريم كيف والأحاديث تؤكد أنه للتحريم كما سبق؟ ولذلك فإني أقطع بأن التحريم هو مذهب الشافعي، لا سيما وقد صرح بالكراهة بعد أن ذكر حديث: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، فلا غرابة إذن أنْ صرَّح الحافظ العراقي ـ وهو شافعي المذهب ـ بتحريم بناء المسجد على القبر. [اهـ بتصرف من كتاب تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للألباني (ص٣٧ - ٤٠)، وراجع كلام الإمام الشاطبي المالكي أن معنى الكراهة في كلام الأئمة هو التحريم في [الاعتصام (٢/ ٥٣٧ - ٥٣٨]، وقد نقلته بنصه في هامش (ص٩٠ - ٩١) من هذا الكتاب.

<<  <   >  >>