للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الذي دفع عثمان بن عفان، وهو في قمة قريش غنى ومكانة وأمانا ومحبة وجاها، إلى أن يتمرد على جاهليته، ويقف في لحظات الدعوة الأولى، الصعبة، الغامضة، الخطيرة، بمواجهة قومه وعشيرته، رافضا الغنى والمكانة والجاه والمحبة، مختارا بدلا منها الفقر والاحتقار والزراية والخوف والكراهية؟ حتى إنه ليستهين بسياط عمه وهي تنزل على ظهره من أجل أن يعود ثانية إلى حظيرة الآباء والأجداد؟ وما الذي دفع أبا بكر- وعشرات غيره- إلى أن ينفقوا من أموالهم الخاصة التي سهروا وكدحوا على جمعها وتنميتها، ينفقوها حتى آخر درهم، حتى أن الرسول ليسأل رفيقه الصديق: وما الذي أبقيت لعيالك يا أبا بكر؟ فيكون جوابه: أبقيت لهم الله ورسوله!! وما الذي دفع سعد بن أبي وقاص، الغني المدلل، إلى أن يرفض توسلات أمه، وقد أوثقته رباطا، من أجل أن يرتد عن دينه، حتى ليسلمها الهم من جراء ذلك إلى المرض، فما يكون جوابه إلا أن يقول للأم التي هي أعز الأحبة على قلوب الأبناء: والله يا أم لو رأيتك تموتين مائة مرة ثم تعودين ثانية إلى الحياة ما ردّني ذلك عن ديني!! .. وغير عثمان وأبي بكر وسعد ... كثيرون!!

لقد انتمى إلى الإسلام- كما يقول مونتكمري وات- شباب من أفضل العائلات، وخالد بن سعيد أفضل ممثل لهذه الفئة، ولكن هنالك آخرون غيره وكانوا ينحدرون من أقوى العائلات وأشهر القبائل، تربطهم روابط متينة بالرجال الذين يملكون السلطة في مكة، وكانوا في مقدمة أعداء محمد. ومن المهم أن نشير إلى أنه وجد في معركة بدر أمثلة على الأخوة والآباء والأبناء والعم وابن الأخ الذين كانوا يقاتلون في صفوف كلا الحزبين. ويمضي (وات) إلى القول بأن أهم فكرة نستخرجها من هذا (العرض عن المسلمين الأول) هو أن الإسلام الفتي كان في الأساس حركة شباب، إذ أن معظم الذين نعرف أعمارهم لم يتجاوزوا الأربعين عند الهجرة- وبعضهم كانوا أصغر كثيرا- وكثير منهم كانوا قد اعتنقوا الإسلام منذ ثماني سنوات. ولم يكن الإسلام، من جهة ثانية، حركة رجال من طبقة مستضعفة من حثالة الناس أو من طفيليين صعاليك حطوا رحالهم في مكة.

ولم يستمد الإسلام قوته من رجال الدرجة السفلى في السلم الاجتماعي بل من أولئك الذين كانوا في الوسط «١» . ثم ما يلبث (وات) أن يقع في نفس الخطأ الذي


(١) محمد في مكة ص ١٥٩- ١٦٠.

<<  <   >  >>