للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شفاف تتجلى فيه الحياة بآلامها وآمالها، بواقعها المرير وأحلامها المنتظرة، فهو حزن مرهف مبدع عميق يهز الوجدان ويسموا بالعواطف في بيئة قلوبها صخر، ووجدانها موت وصلابة١. وأما عنترة فلم ينس أنه كان يومًا عبدًا في مجتمع السادة، ولكنه لم يترجمها عدوانًا على الذين سلبوه حريته زمانًا طويلًا، ولا حوَّلها سلبًا ونهبًا مستندًا إلى قوته، لكنه ضرب المثل للسادة أنفسهم كيف يكون السيد، وانعكس ذلك في شعره بأبيات تؤكد ذلك المسلك الكريم٢.

وأما المجال الثاني الذي فيه تطبيق على منهجه فهُمْ الصعاليك "شعراء متمردون"، فقد واكب الشعر تلك الأحداث الاجتماعية الكبيرة، بل عدَّه الكثيرون ثورة الفن الدائمة في مواجهة التخلف، والسجل الباقي للوعي البشري, ولم يكن الشعر العربي غريبًا عن الواقع العربي، ولم يتخاذل، ولم يعتزل متواريًا هاربًا، بل واكب عصره حساسية ونبضًا، مرتبطًا بواقعه وقضاياه، ومكثفًا الخبرة الشعورية والفنية بما بلغ التجربة الإنسانية, وأصلها في صورتها الحقيقية المؤثرة.

وكان الصعاليك أول ثورة واقعية متمردة في الشعر العربي، وقد اتخذ الصعلوك الإغارة والغزو شعارًا له، غير أن هذا الشعار قد اتخذ وجهين في التطبيق، فمنهم من طبقه بهدف التغلب على واقع اقتصادي قاسٍ ساد المجتمع، ومنهم من طبَّقه بقصد السلب والنهب، والصعاليك يشتركون في دوافهم: الفقر والإحساس بالظلم وفقدان المساواة والحرية، وإن اختلفوا في الوسائل، ويتحدون في نتائج تلك الدوافع وهو رفع الظلم والانتقام من الأثرياء والمستعبدين, ويبدو أنهم أرادوا أن يشذوا عن ذلك الواقع ما داموا يرفضونه، فأحدثوا أول صدع فني قوي الأثر تجلى في ملامح شعرهم الخاصة، واتسمت قصائدهم بالقصر, وتتناول موقفًا واحدًا، فاتسمت بالوحدة الموضوعية، وجاء شعرًا واقعيًّا التزم أصحاب به٣.

وأما إحسان سركيس فقد قرَّرَ منذ البداية أنه لا بُدَّ من فهم تراثنا وإفهامه من مناحٍ جديدة، ولا بُدَّ من رؤيته بأعين جديدة، وذلك من أجل أن يتَّصل خيط الرسالة الحضارية والاستمرارية التاريخية، ويرى أن مصيبة تراثنا تكمن في بعض مَنْ تناوله


١ المرجع نفسه ص١٠.
٢ شعرنا القديم: رؤية عصرية ص٢١.
٣ شعرنا القديم: رؤية عصرية ص٢٤-٣٢.

<<  <   >  >>