للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقرر في ختام الفصل أنه إذا استطاع أن يؤكِّد على وجود الشعر الجاهلي وصدق تمثيله للحياة الاجتماعية والسياسية والروحية لذلك الزمن، فمن المؤكَّد أيضًا أن هذه الشجر الباسقة لم تنبت في أرض عراء، ولا بُدَّ أن يكون قد سبقها مخاض طويل تجاوز ألف عام.

وفي سبيل التمهيد لمنهجه ودراسته يرفض فكرة البداوة المطلقة في المجتمع الجاهلي, ويرى أنه كانت قواعد حضارية ترسى، وقد تتوارى بين الحين والحين، وتتمثّل في تطلع سياسي إلى قيام مجتمع ودولة، يعبِّر عنهما بمحاولات دائبة, أو بمجرد الشوق المنعكس في الكلمة والطباع والمواقف١.

أما اللغة وهي ظاهرة رئيسية في حضارة الإنسان تقوم على الاجتماع البشري والعمران، ولا يمكن أن يكتب لها الذيوع والاستمرار إلّا إذا كانت مواطنها بؤرة الالتقاء للتحركات المختلفة, والقطب الذي يدور حوله تجمع الناس وتلاقيهم ومبادلاتهم في إطار الأمن والاستقراء النسبي، والتي تقوم في النهاية على علاقات مادية وثقافية وروحية٢.

والآداب الجاهلية في نظر الباحث مرحلة انتقالية، فالشعب العربي في جاهليته كان يمر عبر جدلية المد والجزر، فيه تتبدّل بين البوادي والقرى دون أن تتمكّن واحدة منها من أن تكون محورًا لكيان واحد. وكانت بداية يقظة الذات استيعاب الموضوع من خلال اقتحام الذات لمجال موضوع وجذبه إليها؛ لأن الموضوعات بذاتها مستقلة عن الذات العارفة, وإن في وسع الذات حينما تأخذ وجهة موضوعات بعينها أن تلتزم مواقف مختلفة من خلال الأداة التي تصطعنها. وإذا كان الموضوع من خلال الموقف العملي متعذرًا في رأد يقظة الذات، فيمكن التعبير بالوسائل المتاحة لها كالوسائل الجمالية مثلًا؛ حيث تستطيع إبداع صور جديدة تحمل طابع ذاتيتها.

ويزعم الباحث أن الحياة كانت ترهص للجديد الذي يترقّب اللحظة المناسبة ليخرج من القوة إلى الفعل، وهذه الحياة نفسها هي التي تفسِّر اختيار العرب للشعر كأداة تعبيرٍ عن عبقريتهم في واقع وفترة محددين، كما تفسِّر كيف أن هذه العبقرية


١ مدخل إلى الأدب الجاهلي ص٢٤، ٢٥.
٢ المرجع نفسه ص٧٥.

<<  <   >  >>