غير أن الطبيعة الحدسية للوعي في تلك المرحلة تختلف جدًّا عن طبيعة الحدسية في سياق المراحل المتقدمة لتطور المجتمعات البشرية, فميثولوجيا الجاهلية العربية هذه كانت التعبير التاريخي عن تطلعات هذا النموذج المعين من المجتمع القلبي إلى ما وراء المحسوس تفسيرًا لبعض الظواهر الكونية التي كان يتعذر عليهم تفسيرها بشكل آخر عقلاني في تلك المرحلة من تاريخهم.
والسمة البارزة لهذه المثيولوجيا هي الطبيعة الحسّية التي يخعلونها على المعاني, أي: على غير الحسية, ولهذه السمة أساسها الواقعي المرتبط بالمستوى التاريخي لتطور الوعي؛ فوعي الجماعة القبلية الوثنية لم يكن في مستوى من التطور يرتفع به إلى درجة الاستيعاب التجريدي للمسائل الكونية، أي: لتصور المعاني والأفكار تصورًا مجردًا من علاقاتها المادية بالواقع المحسوس.
وأما الظاهرة التي بدأت تبرز خلال الفترة المقاربة لظهور الإسلام واعدة بأنها ستتخطَّى تلك الظاهرة الوثنية المتجذرة، فهي ما كان يتمثّل حينذاك في ملامح جديدة للوعي العربي الجاهلي, كانت تنمو بوتيرة تثير انتباهنا الآن إلى درجة الاندهاش: ملامح تطور يعتمل في داخل البنية السائدة لهذا الوعي.
وقد كان الاتجاه نحو انفجار هذه الاطر المتعددة يعني من حيث دلالته الواقعية - التاريخية, حركة ديالكتيكية تتضمّن الهدم والبناء في عملية واحدة، بمعنى: أن يتحول التعدد إلى التوحد، أي: إنه سيولد مجتمع يحتويه إطاره التوحيدي.