للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢- إن مقدرة هذا الشاعر لا تقتصر على التسجيل الدقيق لحقائق الطبيعة, بل تمتد إلى أن تمكنه من التعاطف مع العواطف المنقولة, بحيث يضطرب لها كيانه اضطرابًا تنتقل إليه عدواه القوية.

٣- هي تلك التي تجعل منه شاعرًا ممارسًا، وتلك هي مقدرته الفائقة على أن يصور لنا بألفاظه دقائق الصور المنقولة، وأن يحمل إلينا بهذه الألفاظ ظلال عواطفه المرهفة.

أما الطبيعة عند الشعراء الجاهليين فهي بالنسبة إليهم "شيء حي نابض بالحياة, استجابوا لما فيها من حيوية واهتزوا لمؤثراتها اهتزازًا شديدًا, وتتبعوا لما يحدث لها من تقلبات على مرِّ فصول السنة المختلفة"١.

أما حينما ينتقل الشاعر فإنما ينتقل فجأة ومباغتة إلى أبيات حزينة متشائمة، يترك فيها عالم الحيوان السعيد إلى عالم الإنسان الشقي, وهذا هو قسم الحكمة من القصائد الجاهلية، ويرى فيها الباحث أو في أغلبها حكمة مليئة بالأسى والحسرة وخيبة الأمل٢.

وفي هذا الانتقال من البهجة إلى التشاؤم وتغير الحالة النفسية, فإنه في نظر النويهي ناتج من إحساسه بأن وجوده محصور في العالم المحدود، لا عالم آخر فوقه أو وراءه أو بعده، ولكن هذا اليأس التام من وجود غير الموجود يقبل بِنَهَمٍ على هذه الحياة الفانية التي لا يؤمن بغيرها, والاندفاع بكل طاقته في استغلالها واعتصار كل قطرة منها قبل أن تولي٣. وهكذا فإن الشعراء الجاهليين قد انتقموا من الموت بكل الوسائل: باللذة، بالحب، بالخمر، والنساء والشواء والغناء والندامى والعطر والزهور، بركوب الإبل النجيبة والخيل الكريمة، بالصبر على السفر المجهد، بالصيد, بالقتال، بإنفاق المال بجنون، ولكنهم وجدوا سلاحهم الأقوى ضد الزمن وقسوة الحياة وتقلُّب الدهر وحتم الموت في الشعر٤.


١ النويهي ٣٩١.
٢ نفسه ٣٩٩.
٣ نفسه ٤١٩.
٤ نفسه ٤٣٢.

<<  <   >  >>