للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

تتمشى وروح الزهد العامة في الأقوال، كما أن الثالثة والرابعة أوجز من أن تنسب إلى أم ثاكلة. وتتميز المجموعة الثانية بأنها قد جمعت جانبا غير قليل مما نثر في الحكم، مع الإلحاح على تذرع الأم الثاكلة بالصبر والعزاء، وإذا وضعناها إلى جانب قولة أخرى أوردها المبشر بن فاتك نفسه وجدنا الانتقال من الصبر إلى الجزع واضحا تماما حيث يرد على لسانها " قد ولت الدنيا عني، وهد الموت ركني، وأذعنت بحلول الزوال علي، والدوام لبارئ الكل الحي الذي لا يموت ولا يزول ولا يفنى. وكل مرضعة فللموت تربي، وللفناء تغذو وإلى الثكل تصير، فما العوض من فراق الحبيب وثمرة القلب ومنى النفس!! ما أرى أن في الدنيا وطنا ولا مقرا بعد هلاكه إلا بأن أهيم مع الوحوش إلى أن يكرمني الله باللحوق بدار الحبيب " (١) ، ومن تأمل هذه الاختلافات في الأقوال المنسوبة لأم الأسكندر أدرك أنها تمثل مواقف مختلفة، بحسب نفسيات الذين كانوا يتصورون أنا تشهد تابوت ابنها وبحسب تفاوت أمزجتهم وانتماءاتهم.

لقد أطلت القول بالحديث عن أقوال الحكماء لأنها اكتسبت أهمية لا في تاريخ الأدب العربي وحسب بل في الأدب السرياني والفارسي والتركي، وشاعت في الغرب منذ القرن الثاني عشر الميلادي (٢) ، ولست أنوي أن أتحدث هنا عن ما تركته من أصداء غير مباشرة في الأدب العربي، فقد بان من الأمثلة السابقة مدى التلاقي؟ اطرادا وعكسا - بين هذه الأقوال وبين المرثية العربية، وإنما أكتفي بعرض صورة واحدة تمثل دور المحاكاة، - بقوة الأنموذج - كما أوضحت في مطلع هذا الفصل، وهذا يقضي عودة إلى مدرسة أبي سليمان المنطقي، ومؤرخها المخلص أبي حيان التوحيدي.

وتتصل المناسبة بوفاه عضد الدولة الذي ينعته أبو سليمان المنطقي بالملك السعيد (٣) ، وقد كان هذا الملك يرعى أبا سليمان ويفضل عليه، ولهذا نجده يقول بعد وفاته: " من يذكرني وقد مضى الملك؟ رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي ويجري على عادته معي، ومن يسأل عني ويهتم بحالي، هيهات! فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه؟ إن الزمان بمثله لبخيل - كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال وملتقى القفال ومحقق الأقوال والأفعال؟ " (٤) "، ويبدو أن فضل عضد الدولة


(١) مختار الحكم: ٢٤٢.
(٢) انظر التوحيدي: الامتناع والمؤانسة ٢: ١١٦.
(٣) انظر التوحيدي: الامتناع والمؤانسة ٢: ١١٦.
(٤) الامتناع ١: ٣٠.

<<  <   >  >>