للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وثانيهما؟ وهو ما يهمنا في هذا الصدد - إعادة " ترجمة " الآثار اليونانية بأسلوب رفيع، كما أشرت إلى ذلك في الفصل السابق، لا لكي يسهل حفظها وحسب، بل لكي تصبح نموذجا أدبيا يحتذيه الكاتب، وإذا أقتبس منه خفي اقتباسه، واندرج ما اقتبسه ضمن أسلوبه المتوازن المسجوع.

وكان من أوائل النصوص السياسية المنقولة إلى العربية الرسائل المحولة إلى ارسطاطاليس وخاصة رسالة بعنوان " السياسة في تدبير الرياسة " أو " سر الأسرار " فيما كتبه للإسكندر، وهي الرسالة التي يعتقد الأستاذ غرنياسكي أن أساسها الأولي تمثله " رسالة في السياسة العامية " المنحولة أيضا له، ولتي ربما كانت من النصوص التي نقلها سالم أو نقلت له. وقد حظيت تلك الرسائل المنحولة لأرسطاطاليس وبخاصة رسالته في السياسة العامية التي تطورت من بعد في ما سمي " سر الأسرار " بما لم يحظ به غيرها من عناية استنساخا واقتباسا وإضافة، ولكن الذي يهمنا؟ في هذا المقام - هو أنها وجدت من يعيد صياغتها في أسلوب مسجوع لتصبح قطعة أدبية لا محض رسالة سياسية.

متى حدث ذلك وعلى يد من؟ لا أجد على هذين السؤالين جوابا قاطعا حتى الآن، وإن كنت أعتقد أن " نظم " الرسالة قد يكون من فعل صاحب " الفرائد والقلائد " فإن لم يكن الأمر كذلك فصاحب الفرائد إنما يقلد محاولات سابقة في هذا المضمار، ولدينا ما يثبت أن بعض المحاولات لإعادة كتابة بعض الرسائل السياسية أو بعض أجزائها بأسلوب جزل مسجوع قد تم في القرن الرابع أو قبله، فقد أورد أبو حيان التوحيدي في " الإمتاع والمؤانسة " صورة من هذه الصياغة الأدبية بين مجموعة من الحكم القصيرة التي أظن أيضا أن يد التحوير قد مستها، وتجري العبارة التي أوردها التوحيدي كما يلي: " تجرع من عدوك الغصة إن لم تنل الفرصة، فإذا وجدتها فأنتهزها قبل أن يفوتك الدرك، أو يصيبك الفلك، فإن الدنيا دول تبنيها الأقدار، ويهدمها الليل والنهار " (١) ، وليست العبارة في صورتها هذه إلا " ترجمة " لقول ينسب إلى أرسطاطاليس وهو " افترص من عدوك الفرصة واعلم أن الدنيا دول " (٢) .


(١) الإمتاع والمؤانسة ٢: ٦٢.
(٢) مختار الحكم: ١٩٣ وفي السعادة والإسعاد: ٣٢٥ وردت عبارة ارسطاطاليس كما يلي: " ومتى أمكنتك فرصة فاهتبلها فإن ترك المبادرة عند مصادفة الغرة ممعقب للحسرة وإنما الدنيا دول " وفي سر الأسرار: ١٣٦ ولا تدع لك في عدوك فرصة إلا انتهزتها.

<<  <   >  >>