للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

اليسيرة التي نسبها إلى اليونانيين؛ وقد عبر ابن قتيبة عن هذا الحذر في أدب الكاتب حين قال يصف المثقف في عصره: " وأنحرف إلى علم قد سلمه له ولأمثاله المسلمون، وقل فيه المتناظرون، له ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغمر والحدث الغر قوله: الكون والفساد، وسمع الكيان المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل والأخبار المؤلفة راعه ما سمع؟.. " (١) .

وتمثل تلك الصرخة التي أطلقها ابن الداية؟ الذي كان هو وأبوه من محبي الثقافة اليونانية - حلقة في سلسلة تلك المنافسة بين أنصار الثقافتين، في حقل السياسة على وجه الخصوص؛ إذ يتصور ابن الداية أن شخصا قد أخذ يبين؟ بحق - فضل الفرس في السياسة، ولكن جماح التعصب لم يقف به عند هذا الحد، وإنما دفعه إلى تنقص اليونانيين في هذا الشأن، وكرر ذلك على سمع صاحبه، مما اضطر ابن الداية إلى أن يقدم له نموذجا من آراء اليونانيين في الحقل السياسي لكي يستطيع صاحبه أن يدرك " محلهم من حسن السيرة وفضلهم على غيرعم في السياسة " (٢) ؛ وسواء أكانت هذه التوطئة " حيلة " تأليفية، أو حقيقية واقعة، فأنها تصور رد ابن الداية على طغيان الأدب السياسي الفارسي حينئذ.

وكان على أنصار الثقافة اليونانية أن يقوموا برد آخر، في حقل متصل بالسياسة، وهو " الآداب "، فقد كاد يستقر في الأذهان أيضا أن قواعد الآداب وقف على الفرس؛ ولهذا نرى جهودا كبيرة تبذل في حقبة الترجمة على يد حنين وغيره من التراجمة لنقل الأقوال الحكمية اليونانية، موازاة لما يقوم به أنصار الثقافة الفارسية أمثال الحسن بن سهل من نقل جاويدان خرد وغيره من آثار الفرس (٣) ؛ وكان ما ينقله


(١) أدب الكاتب: ٣ - ٤، ويعد ابن عبد ربه في العقد عالة على عيون الأخبار، ومع ذلك الأقوال المنسوبة لليونانيين تقل عنده، وتندرج تحت كلمة مبهمة مثل " وقال الحكماء " أو تنسب لشخصية عربية، وعن موقف ابن عبد ربه من " العلوم الجديدة " انظر بخاصة: إحسان عباس، تاريخ الشعر الأندلسي (عصر سيادة قرطبة) : ١٣٧ (ط:١٩٦٠) .
(٢) الأصول اليونانية: ٣ - ٤.
(٣) خارج نطاق هذه المنافسة، كانت ترجمة العلوم والفلسفة انتصارا واضحا للثقافة اليونانية، ولذلك نرى حتى بعض المنتمين إلى الثقافة الفارسية. يحاول أن يحاكي المأمون في شغفه بذلك، مثال ذلك طاهر بن الحسين الذي طلب إلى أبي قرة أسقف حران أن يترجم له كتاب أرسطاطاليس في فضائل النفس (مخطوطة كوبريللي:٦٦) . ومثل بني المنجم الذين كانوا يرزقون جماعة من النقلة في الشهر خمسمائة دينار للنقل والترجمة والملازمة (القفطي: ٣٠ - ٣١) ويمكن ذكر أمثلة عديدة في هذا الصدد.

<<  <   >  >>