بسم الله الرحمن الرحيم
[تمهيد]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد فإن من سعادة العبد أن يستقيم على العمل بأم القرآن، التي أمرنا بتعاهدها آناء الليل والنهار، وتعاهد الصراط المستقيم الذي تدعو إلى الاستقامة عليه علما وعملا، الذي كان عليه النبي وأصحابه. وقد قال عبد الله بن مسعود: الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ رواه الطبراني [١٠٤٥٤] بإسناد جيد.
وإنما الأصول والشفاء والغَناء في كتاب الله والحكمة وهي السنة التي ربى النبي بها أصحابه. ولا تحل الفتوى في الحوادث إلا لمن عرف هذه الأصول، سواء ما حُفظ منها مسندا وما يستخرج من بين ذلك كالترك والعفو، وما كان عليه العمل بعد رسول الله زمان الخلافة التي كانت على منهاج النبوة.
وهذه الآثار محفوظة بحمد الله، لكن من الكتب ما جمع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، والذي كان من أمر الناس قديما جمع الحديث مع الآثار، وهو السَنن الذي دأبت عليه بحمد الله في هذا الديوان. فتتبعت مما تيسر لي من المظان فتاوى الفقهاء من الصحابة صدّرتُها في الأبواب بأحاديث النبي الأصول، ليُعلم إذا اختلفوا أصحُّها في السنة، وكتبتها بأسانيد من أخرجها، لتكون كالدليل على ما أذكر من ثبوت الأثر أو ضعفه، ولا تستطِل تكرار الأسانيدِ ومتونِها، فلن تعدم إن شاء الله خيرا. وإذا كان الخبر في الصحاح لم أكتبه إلا من ذلك الوجه إلا أحيانا لفائدة تذكر. وكتبت الضعيف أيضا للبيان، ولإمكان الوقوف على شواهد جهلتها، ولتقريب النظر إلى من قد يكون أوعى لما جمعته مني وأفقه، أو من يكون له نظر في سند يحتمل الخلاف في ثبوته، وتحاشيت ما لا يصلح للمتابعات مثل رواية محمد بن عمر وابن أبي يحيى الأسلميين وأضرابهما، إلا ما كان عارضا للبيان.
ومتى وجدتُ لرجل من أئمة الحديث حكما على أثر لم أَعْدُه، وما لم أجد اعتبرت بمجموع طرقه ومخارجها وشواهدها من فقه أصحاب الواحد من فقهاء الصحابة، ممن كان له أصحاب قاموا بفتاواه من بعده كابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس.
وأعني بالمخارج الرواة (التابعين) الذين نقلوا الخبر عن الصاحب، فأبطن الناس بعائشة زوج رسول الله القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن وأهل المدينة، روايتهم مقدمة على رواية من سواهم كعطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة وغيرهم من أهل الآفاق في ما لا يجوز أن يخفى عليهم من شأنها. وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد ومسروق وسائر أصحاب عبد الله بن مسعود أولى بمعرفة مذهبه من غيرهم. وهكذا الشأن في من سواهم.
وقد اقتصرت في هذا الديوان على ما يحتاج طالب العلم في اختلاف الفقهاء من أمور العمل التي يبتلى بها عموم الخلق، دون أمور السياسات، والفتن والملاحم وأخبار الزهاد ونحو ذلك .. وإنما كانت همتي فيه الجمع والتصنيف، لم أتكلف فيه ترجيح مذهب ولا تعليلا .. ولست هنالك.
وسأُرجئ من هذا المجموع كتبا أفردها بعدُ بالنشر أجزاء إن شاء الله، ككتاب الحدود وغيره، كراهية الطول.
وسميت هذا المصنف "العتيق"، نزعا من وصية ابن مسعود "عليكم بالعتيق"، وهو الأمر القديم فيهم، والسنة الماضية التي كانوا عليها قبل نزول الفتن .. وهو المبتغى من هذا السعي.
وإني لأعلم أني لم أُحط بكل ما حفظ عنهم خُبرا، وأَنّى ذلك لعبد، ولكن حسبي أن الله لا يكلف نفسا إلا ما آتاها. وقد كان مالك والأوزاعي والثوري وأضرابهم يفتون بما انتهى إلى أحدهم من علم الأولين، ثم إذا صح عنده شيء على شرطه أخذ به، ولم يكن ذلك محيلا له عن أن يقول بما انتهى إليه علمه من قبل، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
وما أحوج الناس والدعاة إلى الله خاصة إلى تتبع سبيل المؤمنين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحمل الناس عليه، وإفتائهم بما كانوا عليه، إن كانوا يتحرون هدايةً إلى الصراط المستقيم، وإنما هو التوقيع عن الله والدلالة على سبيل الله.
وما أحوج طلبة العلم إلى الرجوعِ به وبمصطلحاته ومناهجه إلى طريقة الأولين، وهذا لا يتم إلا بمعاشرتهم، وإدمان النظر في آثارهم، ومن عاشر الفحول تفحل.
لكن من قصرت همته عن ذلك، وأحسن الظن بما أحدث الناس بعد ذلك لم يبصر عوار المتأخرين الذين خالفوا السابقين الأولين.
وَرُبَّ خبرٍ عن رجل من أصحاب رسول الله بُنِيَتْ عليه مسائلُ في الفقه وفي أصوله، وإنما هو من أوهام الناقلين. كما ذكروا في راوي الحديث يفتي بخلاف ما روى، ومثلوا له بما صح عن أبي هريرة عن رسول الله في ولوغ الكلب يُغسل منه الإناء سبعا، وروي عنه أنه أفتى بغسله ثلاثا، وهو خبر معلول، يأتي سياقه في بابه إن شاء الله.
وروى البخاري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من بدل دينه فاقتلوه. وروي عن ابن عباس أنه أفتى في المرتدة أنها لا تقتل. فاحتج به ناس من الكوفيين على أن المؤنث لا يدخل في عموم "مَن" الشرطية، وذكروه مثالا لتخصيص العموم بفتوى الراوي، وهو خبر منكر لا يصح عند جماعة أهل الحديث.
كذلك سائر ما ينسب إلى أصحاب رسول الله في كتب الفقهاء المتأخرين يحتاج إلى تثبت.
وربما يذكر عن الواحد منهم قولان في المسألة، وإنما هو وَهَمٌ من بعض الرواة، كما روي عن زيد بن ثابت وابن عمر في الذي حرم امرأته أنها ثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، رواه البصريون، وروى أهل المدينة عنهما أنها يمين يكفرها، وهو الصحيح عنهما، ومثل هذا في الأخبار كثير. وكلها تأتي إن شاء الله في مظانها.
ولربما روي عن الواحد منهم كلمةٌ على وجه الاختصار، فحُملت على غير مراده، ومن جمع الروايات عرف معناها. مثاله ما روي عن عمر بن الخطاب في الصرف أنه قال: إنما الربا على من أراد أن يربي اهـ وليس بابه الصرف، ولكنما قالها في الهدية في القرض.
وقد روى صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال في خبر طويل: .. فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله. وذكر الحديث، أخرجه البخاري. فتوهم ناسٌ بعدُ أن عمر كان قد اتخذ مؤذِّنِينَ للجمعة، وابن شهاب قد أتى بالصريح في روايته عن السائب بن يزيد أن الأذان كان واحدا. وإنما هذا الحرف "المؤذنون" كان من الرواية بالمعنى الواسعة، وقد رواه مالك ومعمر وابن عيينة عن ابن شهاب بلفظ "سكت المؤذن". وهذا تراه إن شاء الله مخرجا في كتاب الأذان، مع بيان وجهه.
ومن تمرس بلسانهم عَرَفَ المُحْدَثَ من "المصطلحات" في العلم مما يجري على العتيق، وسَلِمَ من كثير من الاختلاف وشَرَرِهِ .. كما اختلف الناس بأخرة في قول الرجل: أن الله يعرف كذا، أو أنه سبحانه يدري ما كذا .. وما يجوز أن يعبر به عن علم الله .. وما يُذكر من الفرق بين العلم والمعرفة. وما أنكروه كان ربما قاله علماء الصحابة لا يجدون في صدورهم منه شيئا. هم كانوا أعمق علما وأقل تكلفا .. وقد ذكروا عند عمر بن الخطاب من أصيب يوم نهاوند، فقالوا: قتل فلان وفلان وآخرون لا نعرفهم، فقال عمر: لكن الله يعرفهم اهـ
وقد قال الله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) [التوبة ١٠٠] فجزى الله خيرا عبدا سعى في إحياء العمل بهذه الآية، وتسهيل العمل بها لعموم المسلمين.
وهذا سعي ضعيف عسى الله أن يهيئ رجالا يكونون ردءا على إتمام الأمر وإحياء علم الأولين والرجوع بالناس إلى الأمر العتيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله.