[فصل في معرفة أعيان أهل الفتوى من أصحاب رسول الله وجملة طريقتهم]
تبارك الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وهو العلم النافع والعمل الصالح، ليظهره على الدين كله قدرا مقدورا، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، واختار له من أمته أصحابا جعلهم برحمته وخالص فضله أصحاب عزائم وأهل صدق ويقظة. وأمر نبيه أن يتلوَ عليهم آياته ويعلمَهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. فكان يعلمهم بما شاء الله له من حكمة التعليم بالقول والعمل والعفو .. يقربهم ويتعاهدهم، ويشاورهم في الأمر، ويقول في الصلاة: ليلني منكم أولو الأحلام والنهى اهـ[م ١٠٠٠] فلم يزل ذلك من دأَبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم حتى حذقوا، وصدّرهم وزكاهم الله ورسوله.
فكان من آخر ما أنزلَ على قلب نبيه قولُه في سياق بيان أصناف الناس مع الوحي والاستجابة لله والرسول (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) وقال نبيه: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم اهـ[خ ٣٦٥١/م ٦٦٣٢] وروى خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح اهـ[ت ٣٧٩١]
فزكاهم الله في غير آية، ونبيّه في غير حديث، تماما على الذي أحسنوا، بحسن توفيق الله لهم.
فلم ينزل قضاء الله بقبض نبيه إليه حتى أكمل له أمره، وأقر بأصحابه عينه، وبشره بما أعد لهم من الخير عنده، وأنه جعلهم للمتقين إماما.
وأبلغه أن دينه أبدا محفوظ من الأغيار، وأنه بالغ ما بلغ الليلُ والنهار، ولم يجمع للناس مصحفا، ولم يكتب السنن، ولكن صدَّرَ وَرَثَةً رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأظهروا العلم بعده، وكانوا أهله وجندَه .. ومكن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم أيام الخلافة الراشدة المباركة. فإنما حفظ الله دينه بعد رسوله بالعلماء من أصحاب نبيه، والحمد لله.
روى داود بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر اهـ رواه ابن حبان في صحيحه، وله شواهد.
في الحديث دلالة على أن النبي فَرَطٌ لأصحابه ميِّتٌ قبلهم، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وأنهم مخَلَّفون بعده في أمته، وأنهم ورثته القائمون بأمره. وميراث رسول الله سنته التي هي عمله وطريقته.
ومن طريقته أن بلاغه وتعليمه كان بالعمل أكثر من الكلام. قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه. رواه البخاري ومسلم. وكذلك كانت خطبته قصدا، وأمره ونهيه.
وقال محمد بن إسحاق عن معبد بن كعب عن أبي قتادة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: إياكم وكثرة الحديث عني، فمن قال علي فليقل حقا أو صدقا، ومن تقوّل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار اهـ رواه أحمد وصححه الحاكم والذهبي. فرخص في الحديث عنه، ونهى عن الإكثار.
فاتبعه على ذلك ورثته أهل العلم من أصحابه، فكانوا يبثون العلم، ويقلون الرواية عن رسول الله، يبينون للناس دينهم بأعمالهم ليتبعوهم، وبفتاواهم ليأخذوا بها لا يروون عنه إلا القليل.
وقال ابن وهب سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن بيان عن عامر الشعبي عن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صِرار فتوضأ ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا، قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تَبدونهم بالأحاديث فيشغلونكم، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامضوا وأنا شريككم. فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا، قال: نهانا ابن الخطاب اهـ رواه الحاكم في صحيحه وغيرُه. فكانوا يبينون بأفعالهم ليُقتدى بها، ويقلون الرواية. فأكثر السنن إنما نقلت بالموقوفات لا المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا دلالة على أنهم يعلمون أن حجة الله في إبلاغ السنة تقوم على الناس بمجرد أقوالهم، ولو لم تكن حجة الله تقوم على من يبلغونهم دين الله إلا بالرواية عن رسول الله لكانت روايتهم إن شاء الله أكثر مما عُلم عنهم، ولكان التواتر في الأخبار أكثر مما هو معدود عنهم، ولكن السنة ما استنوا به دينا بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، فهم القائمون لله على الناس بحجته، العاملون في أمة محمد بسنته، وهذا من الحفظ الذي وعد الله به في كتابه.
وما السنة بيانه بالقول والحض عليه بينوه بالقول، وما تلقوه بالعمل أظهروه كذلك، وما السنة تركه تركوه فلم يشتغلوا به، فكان مجموع عملهم وتركهم دليلا على السنة. وعملهم بعد نبيهم كان كعملهم معه، سنة متَّبَعة وميراثا محفوظا.
وقد كان رسول الله يأمر بالأمر ليعملوا به، وينهى عن الشيء ليتقوه، ويسنُّ السنة ليقتدوا بها، لا يغادرهم حتى يأخذوا بأمره، فلم تقر عين رسول الله بأصحابه إلا لِما رآى من عملهم بطاعته، وأخذهم بسنته، قال الله تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)، وإنما يراد من العلم العمل.
في الصحيحين عن أنس بن مالك أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، فتوفي من يومه اهـ
فتركهم على سنة يعملون بها، وهو عنهم راض، وما بدلوا تبديلا.
وهي الصلاة التي كان أحدهم يصليها أيام الخلافة، ويأخذها عنه من معه من التابعين، دون أن يتكلفوا تفصيل الرواية فيها عن رسول الله. وكذلك سائر العمل.
فما أمرٌ يُذكر عن رسول الله يأمر به ليطاع لم يعمل به أحدٌ من أصحابه؟ أفيجتمعون كلهم على ترك طاعته؟ ! كلا والله، إنما هما اثنتان، إما وَهَمٌ في الرواية عنه، أو إخبار عن شيءٍ قديمٍ من أمره منسوخٍ .. فيُستدل على ذلك - عند جمع النصوص - بعمل أصحابه.
وأكثر الحديث الذي رفعوه إلى نبي الله كان بالمعنى روايته، في أكثر الأحوال من أكثر الأصحاب، على طريقة العرب في حديثها، يحدثون بما سمعوا على نحو ما سمعوا، نقلا للمعنى الذي فهموا من رسول الله.
قال أبو خيثمة زهير بن حرب في جزء العلم [١٠٤] حدثنا معن بن عيسى ثنا معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن واثلة قال: إذا حدثناكم بالحديث على معناه فحسبكم اهـ صحيح متصل.
وقال عبد الرزاق [٢٠٩٧٧] عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كنت أسمع الحديث من عشرة كلهم يختلف في اللفظ والمعنى واحد اهـ صحيح.
وفي هذا دلالة على أمرين: أولهما أنهم قد فهموا عن رسول الله مراده بما رزقه الله من حسن البيان والتعليم، وبما أنعم الله به عليهم من جودة الأذهان وصفاء القلوب. وثانيهما أن فهمهم مما يُعَوَّلُ عليه في حفظ الدين، ويعتبر في تبليغ السنة، الحفظِ الذي وعد الله في كتابه. فإنما حفظ الله دينه بفهم العلماء من أصحاب نبيه.
وتركوا في ما حدثوا عن رسول الله الإخبارَ عن أشياء من أحواله لعلمهم أنه لم يُرِد بها تشريعا ولم يجعلها سنة، وهم شهداء الله في أرضه.
قال ابن سعد [٨٢٦] أخبرنا عبد الله بن يزيد المقرئ أخبرنا الليث بن سعد حدثني أبو عثمان الوليد بن أبي الوليد أن سليمان بن خارجة بن زيد بن ثابت حدثه عن خارجة بن زيد بن ثابت قال: دخل نفر على زيد بن ثابت فقالوا: حدِّثنا عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ماذا أحدثكم؟ كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي أرسل إلي فكتبته له، وكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، أفكل هذا أحدثكم عنه؟ اهـ هذا حديث حسن، الوليد وثقه الليث بن سعد وأبو زرعة الرازي ويحيى. وهذا الذي حكى سليمان بن خارجة عن أبيه عن جده هو الأمر عند زيد وسائر أصحاب رسول الله بشواهد الآثار.
كذلك لم ينقلوا أشياء من أفعاله، كألفاظ تبايعه، ونكاحه وإنكاحه، وإيلائه .. وتفاصيل في وضوئه كموضع الإناء .. وفي صلاته كهيئة قدميه عند القيام .. وكثير من هذا الضرب. وإنما لم يتكلفوا حكاية ذلك لعلمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيه سنة تُلتزم ..
وقد كان من بيان رسول الله إشاراتُه، وملامح وجهه، ولحن صوته .. فَرُبّ سنةٍ يأمر بها أصحابَه لا يريد بها وجوبا، ورب أمر يجزم به لا يفهم الشاهد منه غير الحتم .. وكل هذا إنما يدل على معناه ما اقترن بالخطاب من لحن الصوت وملامح الوجه .. لا يمكن أن يُنقل لمن لم يشهده إلا من جهة الرواية بالمعنى.
قال جابر في حجة الوداع: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نحلَّ وقال: أحلوا وأصيبوا من النساء. قال جابر: ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم. [خ ٦٩٣٣] فأمرهم بصوت يفهم سامعه أنه أحلهن لهم، وليس بحتم. فنُقل لفظ الأمر "أحلوا" "أصيبوا" ولم ينقل ما اقترن به من حال الخطاب لتعذر النقل، ولكن ذَكر لنا جابرٌ أنه كذلك فَهِم، وأن ذلك قصد نبي الله.
ورسول الله خير الناس بيانا، وأحسن العرب إفصاحا عن معانيه وإفهاما لسامعيه. وهذا الدين محفوظ، وإنما حفظ الله دينه بفهم العلماء من أصحاب نبيه، والحمد لله.