وقد كان رسول الله عبدا لله، عاملا بما أمر، تاركا لمن نهي عنه، وكان تَركُه ما ينبغي أن يُترك من سنته وصميم أمره، وكان تركه بيانا للنهي وامتثالا له، كما أن فعله عملٌ بالأمر وبيان له، وكان تركه كعمله أكثر من نهيه، لأنه أعطي جوامع الكلم، وصانه الله عن اللغو.
وقد نقل أصحابه جملة نهيه وتركه، وكان نقلهم بالعمل أكثر من الرواية، اتباعا لهدي نبي الله، وإنما نقلوا بالرواية طائفة من تركه نزرا يسيرا لمناسبات أدركوها، كما قال جابر وابن عباس لما أحدثت بنو أمية الأذان للعيد قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى اهـ رواه البخاري ومسلم. وكانوا قبل ذلك يكتفون بالعمل، ولا يخبرون بالترك، كما كان رسول الله يعمل فيهم يوم العيد بسنته، ولا يقول لهم: من سنة اليوم ترك الأذان.
وما لم يذكروه من ترك رسول الله في غير ذلك أكثر وأكثر، كله قد اتبعوا فيه رسول الله فتركوا ما كان يترك، وذلك من نقلهم الدين بالعمل.
وكذلك كثير من الحديث عن رسول الله لم يكونوا يتكلفون رفعه قبل أن يحتاجوا إلى التحديث به اكتفاء بالعمل بسنته، ولم يخبروا بما يعلمون من أمره إلا لمَاَّ حَدَثَ في الناس خلافُه، كما حَدَّثت عائشة بأن الأمر في الحائض قضاء الصوم دون الصلاة لما سألتها معاذة العدوية عما أحدثت الخوارج من أمر الحُيَّض بقضاء الصلاة، قالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة! فقالت: أحرورية أنت؟ قالت: لست بحرورية ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة اهـ رواه البخاري ومسلم. وقد كانت أم المؤمنين قبل ذلك هي وغيرها يعملون بالسنة التي كانوا عليها مع رسول الله، ويأخذها مَن معهم عنهم، لا يتكلفون الرواية فيها زمانَ الخلافة الراشدة، حتى أحدثت الخوارج بدعتهم، لِما أحدثوا من ترك الأخذ بعمل الصحابة.
ومنه حديثهم عن رسول الله أنه كان يكبر في صلاته مع كل خفض ورفع، وأنه كان يتم التكبير ولا ينقصه، وإنما قالوا ذلك لما أحدثت بنو أمية نقص التكبير عند السجود.
فلولا ما أُحدث من خلاف العمل الموروث لما تكلفوا رفع الحديث إلى رسول الله، اتباعا لسنته.
فمن لم يعرف سيرتهم، وقنع بما أورث من الروايات المرفوعة وما يفهم المتأخرون منها، وتجاهل آثار الصحابة، أغفل كثيرا من السنن الأصيلة، وأحدث في الدين ما لم يكونوا يعرفون من أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم. فكثير من السنن هي محفوظة في الموقوفات فتاوى الصحابة وأفعالهم.
وقد كان من هدي رسول الله أنه ربما وَقَّت في مكانٍ أو زمان سنة تُتَّبع، وربما جعل الأمر مطلقا غير مؤقت، وهما سواء في الخطاب، مختلفان في العمل المقصود منه، لا يُهتدى إلى الفرق بينهما إلا بالنظر في مجموع العمل عمل النبي وأصحابه الذين حكوا بأعمالهم أعمال نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يرفعوا منها إلا القليل.
فمتى رأيت لرسول الله حديثا يأمر فيه بسنة، ثم لم يكونوا يتحرون في عملهم بالأمر صورة واحدة فهو دلالة على أنهم لم يشهدوا منه توقيتا، وهذا كهيئة اليدين في قيام الصلاة لم يكونوا يتحرون وضعهما على الصدر خاصة أو على السرة، ولكن يضعون أيمانهم على شمائلهم إذا صلوا. وأمثاله في السنن كثير.
ومتى لم تُلفِهم نقلوا في موضع شيئا من عمله، فليس ذلك فراغا في هذا الدين المحفوظ، ولا كان ذلك منهم غفلة أو تقصيرا، ولكن لعلمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يوقت ثَمَّ شيئا، ولم يكن يتحرى فيه سنة، وهذا كهيئة اليدين بين السجدتين لم ينقلوا عن نبي الله فيها شيئا، ولا تحروا ثَمّ هيئة، ولا علّموا أصحابهم .. فهذا من مسالك معرفة السنن المطلقة والمؤقتة.
وإنما يعرف هذا النوع من السنن من مجموع العمل عمل النبي وأصحابه، لا من حديث مسند قط. ومثله لا يكاد ينقل إلا بالعمل، ومن حدث به منهم فإنما هو موقوف أو من الرواية بالمعنى التي هي فهم الصاحب.
وقد كان من أفعال رسول الله ما هو تشريع مقصود، بَيَّنه للمسلمين ليعملوا به، وهو السنة. ومنه ما يحتمل - عند من يبلغه حديثه - أن يكون أراد به معنى دون ذلك .. ثم إذا عمل عملا مثله بعده كان فيه دلالة على مراده ورافعا للاحتمال عند من يبلغه الخبر. وهذا كالرَّمَل في عمرة القضاء، فعله النبي وأصحابه ليرى المشركون جَلَدهم، فاحتمل أن يكون من السنة أي من أعمال العمرة، ثم من مصالحه أنه يحقق ذلك القصد أي إرهاب العدو. واحتمل أن يكون لمكان المشركين خاصة. فلما حج رسول الله وفعل ذلك والمسلمون معه في قدومهم مكة، وليس بها مشرك، علمنا أنه صار سنة.
لكن من ذلك ما لا يُقدَر على معناه إلا بتتبع عمل أصحابه بعده. فقد حكى جابر في حَجة نبي الله أنه لما أتى مقام إبراهيم قرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ولما دنا من الصفا قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) وقال: أبدأ بما بدأ الله به، وأمورا نحوها كانت في حَجته. فاحتمل هذا العمل أن يكون من مناسك الحج والعمرة، أي أنه جعل ذلك ذِكرا من أذكار الطواف والسعي التي أَمر المسلمين أن يأخذوها في ما يأخذون من مناسكهم. واحتمل أن يكون من البيان النبوي أنه علمهم أن الآية هذا تأويلها. ولم يحج رسول الله بعدها حتى لحق بربه.
فلما نظرنا في عمل أصحابه بعده، وألفيناهم لا يفعلون ذلك، ولا يفتون به، علمنا وجه ما رووا عن رسول الله. وإنما كانوا يأخذون بسنته التي شرعها للاقتداء.
وفي هذا كله بيان لمنزلة آثارهم، وأن معرفتها من معرفة السنة، وبيانٌ لخطأ من اكتفى بالنظر في الحديث المرفوع إلى رسول الله وأهمل العمل المُبَيِّنَه زمان الخلافة الراشدة.
نَعَمْ، السُّنة سنةُ رسول الله، ولكن الشأن في معرفة مَظنتها، أن نلتمسها في الرواية عنه مع العمل الموروث، عملِ أهل العلم من أصحابه رحمة الله عليهم أجمعين.
فمن التمس السنة توخاها في مجموع الحديث عن رسول الله عند كل باب مع آثار أهل العلم من أصحابه، ليعلم أشبههم قولا بأمر رسول الله في المسألة، ولا يأتي بشيء لا يعرفونه، لا يسعه إلا ذلك.
وروى ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد بن سويد عن أبي حميد وأبي أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه اهـ رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
ورواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن عبد الملك بن سعيد عن عباس بن سهل الساعدي أن أبي بن كعب كان في مجلس، فجعلوا يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمرخص والمشدد، وأبي بن كعب ساكت، فلم يكن غير أن قال: أي هؤلاء ما حديث بلغكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرفه القلوب ويلين له الجلد وترجون عنده فصدقوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الخير اهـ ذكرهما البخاري في التاريخ وقال: هذا أشبه اهـ
وسواء علينا، كانت رواية ربيعة محفوظة أم لا، فهما على دلالة واحدة في ما نحن فيه، أن الحديث المروي عن رسول الله لا يؤخذ به على العماية حتى يُعرض على ما كانوا يعرفون من أمره، ويُترَكَ ما ينكرون.
وهذه أمور وصفتها في الكتاب المنتخل في البدعة، والحمد لله.