ومذاهب الصحابة تُعرف بالرواية المسندة عنهم، وتعرف كذلك بما يُفهم من مجموع ما ينقل، أو يترك نقله عند مظنة الرواية، أو من طريقة أهل الفتوى من أصحاب الذين كان لهم أصحاب حملوا علمهم، وقرؤوا بقراءتهم، وهم أصحاب عبد الله بن مسعود بالكوفة، وأصحاب زيد بن ثابت بالمدينة، وأصحاب ابن عباس بعدُ بمكة. فمن جمع هذه الأسباب عرف من أحوالهم فوق ما نطقت به الأسانيد. وربما عرض في هذا الديوان ذكر نكات منها، والحمد الله.
ومنه ما روى إبراهيم بن ميسرة عن طاووس قال: ما رأيت مصليا كهيئة عبد الله بن عمر أشد استقبالا للكعبة بوجهه وكفيه وقدميه اهـ وطاووس رأى عبد الله بن عباس وابن عمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا وغيرهم من العلماء، فكانت كلمته هذه صريحة في الخبر عن فعل ابن عمر من تخشعه في الصلاة، دالةً على أن من سواه ممن رآى طاووس لم يكونوا يتحرون ذلك.
وقد كان العلم يؤخذ وتدور الفتوى زمان الخلافة على طائفة من المهاجرين والأنصار ظاهرة على الحق، لا يخطئها ولا تخطئه، منهم المقل ومنهم المكثر، فكان منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري وزيد بن ثابت وأبو الدرداء ومعاذ بن جبل وسلمان الفارسي وعبد الله بن سلام وأبو هريرة وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين وأبو بكرة الثقفي وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عباس وأسامة بن زيد وأبو أيوب وأبو مسعود وأبو طلحة وقرظة بن كعب وأبو برزة وواثلة بن الأسقع وعقبة بن عامر ومعاوية بن أبي سفيان وأزواج رسول الله عائشة وأم سلمة وحفصة وصفية وأم حبيبة وميمونة. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو سعيد الخدري والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدي والنعمان بن بشير. وغيرهم من شيوخ السابقين الأولين وفتيانهم، وهؤلاء كانوا في الناس أذكر.
والذين اشتهروا بالفتيا منهم في الأمصار قبل الفتنة نفرٌ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وزيد بن ثابت بالمدينة، وعبد الله بن مسعود وأبو موسى بالعراق، ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت بالشام.
قال ابن أبي شيبة [٣٣٥٦٧] حدثنا وكيع قال: حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه أن عمر بن الخطاب خطب الناس في الجابية فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: من أحب أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب , ومن أحب أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت , ومن أحب أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل , ومن أحب أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني خازنا وقاسما، فذكر الحديث. هذا مرسل جيد، أخذه علي بن رباح من ناشرة بن سمي اليزني وهو ثقة، وقد صححه الحاكم. وهؤلاء ممن صدّرهم أمير المؤمنين عمر بالمدينة قديما.
وقال ابن سعد في الطبقات [٢٥٨٤] أخبرنا الفضل بن دكين أخبرنا القاسم بن معن عن منصور عن مسلم عن مسروق قال: شاممت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: إلى عمر وعلي وعبد الله ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت، فشاممت هؤلاء الستة، فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله اهـ ورواه أبو حفص الأبار عن منصور عن مسلم بن صبيح عن مسروق وقال أُبي بن كعب بدل معاذ.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا الحسن بن صالح عن مطرف هو ابن طريف عن الشعبي عن مسروق قال: كان أصحاب القضاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة: عمر وعلي وعبد الله وأبيّ وزيد وأبو موسى رضي الله عنهم. رواه البيهقي في المدخل [١٠٩] قال حدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثني علي بن حمشاذ العدل ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نعيم. سند صحيح.
وقال أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب العلم [٩٤] حدثنا عباد بن العوام عن الشيباني عن الشعبي قال: كان يؤخذ العلم عن ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عمر وعبد الله وزيد يشبه علمهم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض. وكان علي وأبي والأشعري يشبه علمهم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض. قال فقلت له: وكان الأشعري إلى هؤلاء؟ قال: كان أحد الفقهاء اهـ معنى الشَّبَه هنا الوفاق في المذهب.
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة [١/ ٤٤٤] حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا جعفر بن زياد عن منصور عن مسروق قال: انتهى العلم إلى ثلاثة، عالم بالمدينة وعالم بالشام وعالم بالعراق، فعالم المدينة علي بن أبي طالب وعالم الكوفة عبد الله بن مسعود وعالم الشام أبو الدرداء، فإذا التقوا سأل عالم الشام وعالم العراق عالم المدينة ولم يسألهم اهـ صحيح وفيه انقطاع. وهذا في زمان عثمان.
وقال ابن أبي شيبة [٧٠٥٧] حدثنا وكيع قال حدثنا محمد بن قيس عن الشعبي قال: قال عبد الله: لو أن الناس سلكوا واديا وشِعبا وسلك عمر واديا وشعبا سلكت وادي عمر وشعبه اهـ مرسل صحيح.
ثم اقتدى الناس من بعدهم - في زمان بني مروان - بعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وسهل بن سعد وأنس بن مالك ومن عاش بعد زمان الفتنة من صغار الصحابة، رضوان الله عليهم جميعا.
فكان العلم يؤخذ عن هؤلاء الرهط من العلماء الأكابر، لا يتخطاهم تابعٌ، فلما هلكوا لم يتغير الأمر، ولم يكن لأحد من أهل الأرض أن يستبدل بهم مَن دونهم، والأقوال لا تموت بموت أصحابها .. لكن قوما نسوا حظا مما ذُكّروا به، ثم بدّلوا تبديلا.
وقاتل الله الخوارج هم سنوا الخروج على العلماء بالفهم من قبل، وقالوا: لا حكم إلا لله، وقالوا لأهل العلم: أنتم رجال ونحن رجال! إذا بلّغتمونا الرواية عن رسول الله!!
وروى سفيان وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قِبَل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم فذلك حين هلكوا اهـ قال أبو عبيد في تفسير غريب الحديث [٣/ ٣٦٩]: والذي أرى أنا في الأصاغر أن يؤخذ العلم عمن كان بعد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويقدم ذلك على رأي الصحابة وعلمهم، فهذا هو أخذ العلم من الأصاغر اهـ
وروى عيسى بن دينار وكان فقيه الأندلس ومفتيها عن ابن القاسم قال: سئل مالك قيل له: لمن تجوز الفتوى؟ فقال: لا تجوز الفتوى إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له: اختلاف أهل الرأي. قال: لا، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يفتي اهـ ذكره أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله [٢/ ١٠٣].
فهؤلاء أصحاب رسول الله هم أصحابنا وشيوخنا، الأثبات المصدَّقون في ما حدثونا عن ربنا ونبينا. إذا رووا بالمعنى أصابوا مراد الله ورسوله. وإذا كان لرسول الله سنةٌ كانوا أقوم الناس بها. فمن تبعهم أصاب السنة واهتدى، ومن خالفهم ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. ونسأل الله أن يلحقنا بهم غير مبدلين ولا مفتونين، وأن يغفر لنا ولإخواننا المتأولين.
عليك بهدي خير المرسلينا ... وفقه السابقين الأولينا
وَخَلِّ المحدثات لأهل ريب ... لقد خُصموا فأنى يؤفكونا
هُمُ ظنوا العتيق به غِرارٌ ... وأن شفاءهم ما يُحْدِثونا
ومن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يجدْ مُرًّا به العذبَ المَعِينا
وماذا حَصّلوا من طول كَدٍّ ... بلى بِدَعاً وخُلْفاً والظنونا
ألا أبلغْ أخا الإسلام عنّا ... فنحن إلى العتيق مُشَمّرونا
وإنّا واجدون به غَناء ... ففيما نبتغي الإحداث دينا؟
عتيقٌ ليس يبلى ما بِلاه؟ ... أَيَبْلَى دينُ رب العالمينا؟
لئن طال الزمان به فإنَّا ... وإن نسي الأنام فما نسينا
إذا صح الحديث فذاك قولي ... إذا ما كان مما يعرفونا
كذلك تجمع الآثار طُرًّا ... لنأخذ مُحكَمَ الأخبارِ دينا
فإن عشنا فما في العيش خير ... إذا لم ننصر الحق المبينا
ونرقبُ مِن مُخالِفِه رجوعا ... ونرجو عزة للمسلمينا
ونرجو التَّوْبَ للعاصين منا ... ونرجو الخير للأمراء فينا
وإن متنا فغاية كل عبد ... وراحة مؤمن يرجو المنونا
كتبه أبو أسماء محمد بن المبارك بن محمد حكيمي