والراشي بهذه القرصة على وجه القرصة الأخرى فمضى الرجل وشك بأي القرصين اشترى، فما أكل الشيخ ذلك وقال: لا أدري اشترى بالذي وكلته أم بالأخرى. ودخل مسجداً لتيغدى فنسي ديناراً كان معه ثم ذكره فرجع فوجده، قم قال لنفسه: لعله وقع من غيري، فتركه ولم يأخذه؛ وكان سليم النية سلس الانقياد، وبهذا وصفه نظام الملك - كما تقدم - وقال انه يصغي إلى كل ما ينقل إليه.
ويبدو أن حالة الفقر ظلت غالبة عليه حتى تولى التدريس في النظامية وهذا ما عناه الشريف أبو جعفر حين قال له:" إلا أنك لما كنت فقيراً لم يظهر لنا ما في نفسك فلما جاء الأعوان.... أبديت ما كان مخفياً " وهذا قول قد يقال في لحظة غضب، ولا يدل على أن أبا إسحاق أصبح ميسور الحال، ولكنه أصبح ولا ريب أقدر من ذي قبل على صد الجوع والعري. غير أن الرجل لم يفارق تعففه، وفي رحلته في خراسان أبى أن ينزل عند أحد من أصحابه؛ ولهذه الأخلاق أحبه الناس، وزادهم حباً له تواضعه الشديد، وطلاقة وجهه وبشره الدائم وحسن مجالسته وملاحة مجاورته، فكان رغم الفقر والتقشف ذا دعابة لطيفة: زاره أحد الراحين إليه فرحب به وقال له: من أي بلاد أنت؟ فقال: من الموصل، فقال: أنت بلديي، فقال الموصلي: ولكن يا سيدي أنا من الموصل وأنت من فيروزاباد، فأجابه أبو إسحاق: يا ولدي، أما جمعتنا سفينة نوح؟ وكان يحلي مداعباته بإيراد الأشعار؛ داعب أبا طاهر خادمه في المدرسة النظامية ذات مرة بقوله:
وشيخنا الشيخ أبو طاهر ... جمالنا في السر والظاهر وكان يحب تلامذته ويقول: من قرأ علي مسألة فهو ولدي.
وبسبب ذلك الفقر لم يحاول أن يحج، وهذا وحده يدلنا على أن صلته بنظام الملك لم تغير كثيراً من حاله المادية، قال الماهاني: الشيخ أبو إسحاق