ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام قبل أن يفرض الحج بالكلية فكان حينئذ تطوعا.
وقد قيل: إن الجهاد كان في أول الإسلام فرض عين فلا إشكال في هذا على تقديمه على الحج قبل افتراضه فأما بعد أن صار الجهاد فرض كفاية والحج فرض عين فإن الحج المفترض حينئذ يكون أفضل من الجهاد قال عبد الله بن عمرو بن العاص: حجة قبل الغزو أفضل من عشر غزوات وغزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات وروي ذلك مرفوعا من وجوه متعددة في أسانيدها مقال وقال الصبي بن معبد: كنت نصرانيا فأسلمت فسألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: الجهاد أفضل أم الحج؟ فقالوا: الحج والمراد والله أعلم: أن الحج أفضل لمن لم يحج حجة الإسلام مثل الذي أسلم وقد يكون المراد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد وهو كونه فرض عين صار ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد وإلا فالجهاد أفضل والله أعلم.
وقد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أن أفضل الأعمال بعد الجهاد في سبيل الله جنس عمارة المساجد بذكر الله وطاعته فيدخل في ذلك الصلاة والذكر والتلاوة والإعتكاف وتعليم العلم النافع واستماعه وأفضل من ذلك عمارة أفضل المساجد وأشرفها وهو المسجد الحرام بالزيارة والطواف فلهذا خصه بالذكر وجعل قصده للحج أفضل الأعمال بعد الجهاد وقد خرجه ابن المنذر ولفظه:"ثم حج مبرور أو عمرة".
وقد ذكر الله تعالى هذا البيت في كتابه بأعظم ذكر وأفخم تعظيم وثناء قال الله تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[البقرة:١٢٥] الآيات وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}[آل عمران: ٩٦, ٩٧] وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج:٢٧] فعمارة سائر المساجد سوى المسجد الحرام وقصدها للصلاة فيها وأنواع العبادات من الرباط في سبيل الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط" فأما المسجد.