بماء يدعى خما في طريقه بين مكة والمدينة فخطبهم وقال:" أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب" ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خير بين لقاء الله وبين زهرة الدنيا والبقاء فيها ما شاء الله فاختار لقاء الله وخطب الناس وأشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح.
وكان ابتداء مرضه في أواخر شهر صفر وكان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور وقيل: أربعة عشر يوما وقيل: اثنا عشر يوما وقيل: عشرة أيام وهو غريب وكانت خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء مرض ففي المسند وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس فقام على المنبر فقال: "إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة" قال: فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر فقال: بأبي وأمي بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا قال: ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى الساعة.
وفي المسند عن أبي مويهبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع وقال: "ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى" ثم قال: يا أبا موهبة إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي والجنة ثم انصرف فابتدأه وجعه الذي قبضه الله فيه.
لما قويت معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بربه ازداد حبه له وشوقه إلى لقائه فلما خير بين البقاء في الدنيا وبين لقاء ربه اختار لقاءه على خزائن الدنيا والبقاء فيها سئل الشبلي هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته فأنشد:
والله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق
ولو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد ومن قد بقي
وقلت لي: لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي
لما عرض الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر باختياره اللقاء على البقاء ولم يصرح خفي المعنى على كثير ممن سمع ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}[التوبة: ٤٠] وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا.