للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأمر الذي اضطلع الأستاذ فندريس ببيانه، والذي أبانه في قوة وبراهين بينة تدعو إلى الإعجاب، هو كيف أن اللغة نشأت من الحياة، وكيف أن الحياة راحت "تغذيها" بعد أن خلقتها.

إن الإدراك القديم، الذي يقول بأن اللغة قد أنزلت على الناس عن طريق معجزة أو أنها شيء خلقه الإنسان خلقا صناعيا، قد ترك آثارا في ذلك النوع من علم اللغة الذي يعدها شيئا ساميا مستقلا، ويضفي على قوانينها نوعا من الحتمية الكامنة، لا على القوانين الصوتية أو قوانين النطق التي ترتبط بالأعضاء فحسب، بل على القوانين الصرفية أيضا، أي قوانين النحو، وعلى القوانين المعنوية، أي قوانين المفردات. ولكن "من الباطل أن تعتبر اللغة كائنا مثاليا يسير في تطوره مستقلا عن بني الإنسان متجها نحو غاياته الخاصة"١. فالحقيقة أن اللغة على صلة وثيقة بالحياة النفسية، وأنها منذ نشأتها سيكولوجية فعالة.

يعلن الأستاذ فندريس أن مشكلة أصل اللغة لا تدخل في اختصاص العالم اللغوي، ولا يدلي في هذا الموضوع إلا بإشارات يحوطها الحذر الشديد. والواقع أنها مسألة سيكولوجية، وأن أصل اللغة كأصل اليد تعوزه تماما الأدلة التاريخية. هذا فضلا على أنه لم يكن هناك أصل بمعنى الكلمة لأنه لم يوجد هناك خلق من العدم، بل تحور-في اتجاه إنساني- لظاهرة وجدت عند الحيوان. فاللغة بمعنى الكلمة الضيق، اللغة السمعية -التي ليست إلا حالة من موهبة إنتاج العلامات- موجودة عنده٢. فالحيوان يعبر عن حالاته الانفعالية بأصوات، وأغلب الظن أن اللغة خرجت من الصيحة التي تترجم عن الانفعالات بطريقة فجائية. ولعل الانطباعات الهادئة والعواطف المعتدلة هي


١ فندريس: الصفحة الأخيرة من هذا الكتاب.
وكوتيرا "Couturat": مجلة الجميعة الفلسفية الفرنسية عدد فبراير ١٩١٢، ص٥٤، وعدد مايو ١٩١٣، ص١٤٠.
٢ ريبو "Ribot": تطور الآراء العامة، ص٦٦.

<<  <   >  >>