ونحو هذه الآيات، وهو ممن يصدق بالقرآن، حمل ذلك على أن حصوله فى الدار الآخرة فقط وقال: أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون، ويكون لهم النصر والظفر. والقرآن لا يرد بخلاف الحس، ويعتمد على هذا الظن إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين: وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى. فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحق. وأنا مغلوب: فصاحب الحق فى هذه الدنيا مغلوب مقهور، والدولة فيها الباطل.
فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال: هذا فى الآخرة فقط.
وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه، وأهل الحق؟
فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح، قال: يفعل الله فى ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد:
وإن كان ممن يعلل الأفعال، قال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلو الدرجات، وتوفية الأجر بغير حساب.
ولكل أحد مع نفسه فى هذا المقام مباحثات وإيرادات وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعته، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته، والجهل بذلك، فالقلوب تغلى بما فيها، كالقدر إذا استجمعت غليانا.
فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلم للرب تعالى واتهامه، ما لا يصدر إلا من عدو، فكان الجهم يخرج بأصحابه، فيقفهم على الجذمى وأهل البلاء، ويقول انظروا، أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ إنكارا لرحمته، كما أنكر حكمته.