وإذا اجتهد أحدهم فى اليمين، بحيث لا يحنث ولا يكذب، حلف بالصليب، ويكذب إذا حلف بالله، ولا يكذب إذا حلف بالصليب، ولو كان لهذه الأمة أدنى مسكة من عقل لكان ينبغى لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم، وإلههم حين صلب عليه، كما قالوا: إن الأرض لعنت من أجل آدم حين أخطأ، وكما لعنت الأرض حين قتل قابيل أخاه، وكما فى الإنجيل: إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان.
فلو عقلوا لكان ينبغى لهم أن لا يحملوا صليبا، ولا يمسوه بأيديهم، ولا يذكرونه بألسنتهم. وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم عن ذكره.
ولقد صدق القائل:"عدو عاقل خير من صديق أحمق" لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح فاجتهدوا فى ذمه وتنقصه والإزراء به، والطعن عليه. وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم وإغراءهم بهم، فنفروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير، وعلموا أن الدين لا يقوم بذلك. فوضع لهم رهبانهم وأساقفتهم من الحيل والمخاريق وأنواع الشعبذة ما استمالوا به الجهال، وربطوهم به، وهم يستجيزون ذلك ويستحسنونه، ويقولون: يشذ دين النصرانية.
وكأنهم إنما عظموا الصليب لما رأوه قد ثبت لصلب إلههم، ولم ينشق ولم يتطاير، ولم يتكسر من هيبته لما حُمل عليه. وقد ذكروا أن الشمس اسودت وتغير حال السماء والأرض، فلما لم يتغير الصليب ولم يتطاير، استحق عندهم التعظيم وأن يعبد.
ولقد قال بعض عقلائهم: إن تعظيمنا للصليب جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء، فإنه كان قبر المسيح وهو عليه، ثم لما دفن صار قبره فى الأرض، وليس وراء هذا الحمق والجهل حُمق، فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها شرك، بل من أعظم الشرك، وقد لعن إمام الحنفاء وخاتم الأنبياء صلى الله تعالى عليه وسلم اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وأصل الشرك وعبادة الأوثان من العكوف على القبور، واتخاذها مساجد.
ثم يقال: فأنتم تعظمون كل صليب، لا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينه.
فإن قلتم: الصليب من حيث هو يذكر بالصليب الذى صلب عليه إلهنا.