الصناعات الدقيقة كالإسطرلاب (مثل بسطلوس المذكور لدى ابن النديم) ، ناهيك عن المزخرفين والخطاطين (مثل ياقوت المستعصمي الرومي، البيزنطي) . كانت هناك كذلك، كما نعلم، حاجة متزايدة للمترجمين، ليس فحسب ممن ينقلون كتب الأمم الأخرى إلى العربية، ولكن ممّن يقومون بدور السفراء الدبلوماسيين بين الإمبراطوريّة الإسلامية وما يجاورها من الدول. هكذا كانت تتقاطر على العاصمة مختلف اللغات والتقاليد والشعوب، وتقيم في بغداد بحثا عن لقمة العيش.
وهذا هو ما يفسّر لنا عنصرا أساسيا من رحلة ابن فضلان التي تعنينا هنا ألا وهو تشكّلها من وفد يتكوّن من أربعة أشخاص هم «٢٤» :
١- سوسن الرسي الذي يبدو من نسبته الرسي أنه من بلاد الروس.
٢- بارس الصقلابي ويدلّ اسمه بوضوح على أنّه سلافيّ.
٣- تكين التركي: وهو تركيّ من دون شكّ يجيد لغات الأتراك التي يمرّ الوفد ببلادها في طريقه إلى الفولغا، وكان يعمل حدادا في خوارزم.
٤- أحمد بن فضلان الذي كان رئيسا للوفد وكان يجهل اللغات الأجنبيّة كما يقول هو نفسه، إلا أنّه لم يكن عربيا البتّة فهو أحد الموالي، وربّما كان من أصل فارسيّ.
وكان مولى لمحمد بن سليمان بن المنفق أبو علي الكاتب الذي فتح مصر وشتّت آل طولون ودخلها سنة ٢٩٢ هـ وقتل سنة ٣٠٤ هـ. على أنّ كونه مولى لا يعني، كما نرى، أنّه كان يتقن العربيّة لوحدها، رغم تبحّره بها، ولعلّه كان يتقن لغة أجداده.
لا يبرز ابن فضلان كبطل رئيسيّ «٢٥» في الرحلة إلا لأنّه كتب الرحلة ببساطة وهو لم يجر طمس رفقته الآخرين لأيّ سبب متعمّد أو محسوب. العكس تماما فلولا رحلته لما عرفنا عن أولئك أيّة شذرة. إنّ كتابته للرحلة، في الغالب، لم تتمّ لكي يبني لنفسه مجدا أدبيا، ولا لكي يعيد الاعتبار لنفسه كما يقول البعض، خاصة وأنّنا لا نعرف له مؤلّفا آخر غيرها. لقد كان سفيرا وحسب سجّل لنا ملاحظات قيّمة