للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

انتشر ذلك في التابعين فمن بعدهم، لاسيما أهل الشام والعراق، ولاسيما الزهاد والحكماء منهم، ووجدنا كعباً ووهب ابن منبه وغيرهما يتحدثون بأشياء لا نظير لها فيما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضائل بعض سور القرآن، وصفة الجنة والنار، وما يكون في آخر الزمان وغير ذلك.

(فحمل) ذلك كله على أنه مأخوذ بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمور التي ينبغي التثبت فيها والتأني عند التعامل معها والخوض في غمارها، ومن عظام المسائل التي ينبغي لأهل العلم والتحقيق أن يحرروها ويضعوا لها الضوابط العلمية الدقيقة الكفيلة بسد باب التقول على المعصوم - صلى الله عليه وسلم - بما لم يقله. والله وحده المستعان.

(ولقد) شاع في بلادنا ـ في الآونة الأخيرة ـ التوسع في دعوى (الرفع الحكمي) تلك، حتى أدخل بعض الناس تحتها بعض المسائل التي اختلف فيها اجتهاد العلماء منذ عهد كبار الصحابة، حتى زعم زاعم ـ بما لم يسبقه إليه أحد من المتقدمين والمتأخرين علمته ـ أن قول حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ الذي صار به في شق، وسائر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في شق آخر، والذي رواه جماعة من ثقات (١) أصحاب ابن عيينة عنه عن جامع


(١) هم عبد الرزاق بن همام الثقة الحافظ في "مصنفه"، وابن أبي عمر العدني الصدوق الحافظ، وسعيد ابن عبد الرحمن الجمحي المتفق على توثيقه، كلاهما عند الفاكهي في "أخبار مكة"، وجاء مرفوعاً أيضاً عن جماعة من أصحاب ابن عيينة، ولم يصح إلا عن سعيد بن منصور الثقة الحافظ عند ابن حزم في "المحلى" لكنه شك في لفظ المتن (!) ومحمود بن آدم المروزي عند البيهقي والذهبي في "السير"، لكن شيخ البيهقي شك هو في المتن الذي حدثه به. وجزم راويه عند الذهبي بذكر المساجد الثلاثة لكن في إسناد الذهبي إليه مطاعن وعلل!
نعم، ويرجح الوقف ثبوته عن إبراهيم النخعي عن حذيفة وابن مسعود ـ مرسلاً ـ بالقصة المشهورة وإسنادها كالشمس صحة. ومن أعلها بالانقطاع فقد أغرب. والحاصل أن الحديث معلول بالوقف أو الاضطراب ـ على أحسن أحواله ـ، ولذلك لا نجد له عيناً ولا أثراً عند كبار أصحاب ابن عيينة كالأئمة: أحمد وابن معين وابن أبي شيبة والحميدي وابن المديني والشافعي وابن راهويه وابن منيع، وزهير بن حرب أبي خيثمة وابن نمير وابن المقريء والفلاس وهناد وأبي كريب وعلي بن حجر وعمرو بن محمد الناقد ونحوهم، وبالتالي لم يخرجه أصحاب المسانيد والمصنفات منهم في كتبهم ـ وهم أحرص ما يكونون على المرفوع المسند ـ ولم يعرف له وجود في "الصحيحين" ولا حتى "صحيح ابن حبان" و"ابن خزيمة" و"المستدرك" و"المختارة" بل أغفلوه وتحاشوه ولم يعبأوا به، وتركوه لأمثال الطحاوي والإسماعيلي والبيهقي وابن حزم!!
وهل يقول عاقل بجواز خفائه على كل هؤلاء أو أكثرهم؟! فهذه خلاصة بحثي حول هذا الحديث، فصبر جميل.

<<  <   >  >>