يخشى على قائل ذلك الكفر؛ لأن الفتوى تبيين حكم الله تعالى وأصلها تبيين ما أشكل، والمفتي بحق مبيّن لحكم الله تعالى، وهو وارث النبوة، والقاضي يفصل ويلزم بمقتضى الفتوى, قال الله تعالى:(قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) النساء/١٧٦. (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) غافر/٢٠. فكل من المفتي أو القاضي بحق له أجر عظيم, والمفتي أعلى والقاضي تابع له؛ لأنه -وإن كان مجتهد فتوى- تابعٌ لفتوى إمامه, فمن زعم أن المفتي يهذي مع اعتقاد أن فتواه صواب فيما أخبر به عن الله تعالى فهو كافر, ومن أطلق تلك العبارة فإنما هو لجهله بمعناها واعتقاده أن الفتوى لا إلزام فيها, وليس كذلك بل يلزم المستفتي الأخذ بها، إلا أن كان عنده ما هو أرجح منها، وتصور اختلاف بين مفتٍ بحق وقاضٍ كذلك إنما هو لاختلاف تصوير أو نحوه, فإن القاضي يبحث ويستكشف أكثر من المفتي, أما مفتٍ أو قاضٍ بغير حق فليس الكلام فيه.
وما ذكره أن المفتي أعلى من القاضي فإنما يتضح فيما أومأ إليه كلامه من أن القاضي تابع له ولو مجتهد فتوى, أما بالنسبة لأصل منصب القضاء بحق ومنصب الإفتاء بحق, فالظاهر أن الأول أفضل؛ لأن فيه إفتاء وإلزاما بالحق وتحرياً وتقصياً أشد مما في الإفتاء, فإن المفتي إنما يتحرى في تحرير الحكم، والقاضي يتحرى فيه، وفي مطابقة الصورة الخارجية له، ولا يتم له ذلك إلا بعد مزيد تحّر وفحص وتعقب تام, فكان منصب القاضي أفضل للأخبار الصحيحة المصرحة بأن أفضل الأعمال أشقها إلا لعارض, وعلى هذا يحمل قول من قال: أفضل المراتب الإمامة العظمى فالقضاء فالإفتاء.
٦ - وأفتى أيضا فيما نسب إليه مكفر كذبا، فطلب من شافعي أن يحكم بحقن دمه حتى لا يرفع لمالكي بيّنة زور فيهدره ولا تقبل توبته, فهل للشافعي أن يحكم بحقنه وعدم تعزيره، وإن لم يقم عنده بيّنة بذلك؟