للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذا تأمَّلت هذه العلوم وجدتها ترجع إلى معرفة المعنى الذي هو أساس علم الوقف والابتداء، فمعرفة التفسير واختلافات المفسرين يُعرف بها المعنى، فيعرف الواقف أين يقف بناءً على هذا التفسير أو ذاك.

ومن أشهر الأمثلة التي يُمثَّل بها في هذا المقام تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: ٧]، فمن فسَّر التأويل بما تؤول إليه حقائق القرآن فإنه يقف على لفظ الجلالة؛ لأن علم الحقائق مما يختصُّ به الله، ومن ادعى علمه فقد كذب على الله.

ومن فسر التأويل بالتفسير جاز له أن يصل لفظ الجلالة بما بعده ويقف على لفظ (العلم)؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره.

وأنت تلحظ في هذا المقام كيف اختلف الوقف باختلاف التفسير، وأصل ذلك راجع إلى المعنى المراد بالتأويل، فالمعنى أولاً، ثمَّ يجيء الوقف تبعاً للمعنى.

ومن أمثلة احتياج علم الوقف والابتداء إلى معرفة النحو ما ذكره النحاس (ت٣٣٨هـ) في استشهاده على ذلك بأن الاختلاف في إعراب لفظ (مِلَّة) من قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ} [الحج: ٧٨] يورث اختلافاً في صحة الوقف على لفظ (حرج) من عدمه، قال: «ويحتاج إلى معرفة النحو وتقديراته؛ ألا ترى أن من قال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: ٧٨] منصوبة بمعنى كَمِلَّةِ، وأعمل فيها ما قبلها = لم يقف على ما قبلها. ومن نصبها على الإغراء وقف على ما قبلها» (١).

ومن أمثلة اختلاف الوقف باختلاف القراءات ما ذكره طاهر بن غلبون (ت٣٩٩هـ) في الاختلاف في قراءة {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا


(١) القطع والائتناف (ص٩٥).

<<  <   >  >>