للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مآثر العمران ويحطمون الجنان. وجابوا في هذه الكرّة الجائرة أودية كانت تميس بغلائل الربيع، وربا حالية بالزهر، وضياعاً عامرة ممرعة، فتركوها من ورائهم قاعاً صفصفاً وخلّوها بلاقع (١)، فكأنما مرت عليها ريح سموم محرقة لا تبقي ولا تذر!

وكانت ثالثة الأثافي هذه الثورة التي قدح زنادها ونفخ فيها دعاة الخصم المغير ومن شرى ضمائرهم بماله، فكادت تجعل على المعتمد دارة ملكه ناراً، ولكن الله أمكنه منها فأطفأها قبل أن تضرى وحكّمه في مجرميها، فأبى له نبل محتده وكرم طبعه إلا العفو عنهم عفو القادر المتمكن، وحِباءهم (٢) حباء الجواد المحسن!

* * *

لم يحفل الملك وقُطّانُ قصره هذه الرزايا، وعادوا منها بما عودتهم الأيام من غلبة الجد وتمام السعد، وظنوها - في جنب ما ألفوا من الخفض وعرفوا من اللين - كالخال الأسود في وجه الغانية الغيداء، لا يجيء ليسوده ولكن ليتم جمال بياضه. والخدر يعرّف الصحيح قيمة صحته، وسحابة الصيف لا تغيم حتى تنقشع.

وأوى الملك إلى سريره بعدما صرم أكثر ليله يعدّ قوته


(١) البَلْقَع: الخالي من كل شيء. يقال: مكان بَلْقَع، والجمع: بَلاقِع (مجاهد).
(٢) حَبا فلانٌ فلاناً حِباء وحَبْوَة: أعطاه وأكرمه (مجاهد).

<<  <   >  >>