فضربوا بطون الإبل، يغتنمون لين الأمسية وطيبها بعد حرّ الهاجرة واشتعالها، ليبلغوا الغاية بعدما طال عليهم السفر وقطعوا فيه سواد إحدى عشرة ليلة وبياض نهارها. وإذا الشاعر يصرخ فيهم صرخة معمود الفؤاد حزين:
عوجوا فحيّوا لنُعمٍ دِمنةَ الدّارِ
ويلطم عنق ناقته لا ينتظر جواباً فيحولها ذات اليمين، وينطلق يحدوه الشوق وتدفعه الذكريات إلى ديار المحبوب. ولم يشأ أصحابه أن يتركوه يهيم في هذه القفار وحيداً، فتبعوه عن كثب، يخافون أن تنكأ الدار جراح قلبه ولمّا يبرأ من داء الغرام.
كان الشاعر ضاحك الوجه متهللاً، كأنما قد رجع إليه شبابه الذي ولى منذ حين وعادت لياليه البواسم، فلم يكد يبلغ الحي الخالي ويراه قفراً يَباباً حتى وقف وغمرت نفسَه كآبةٌ طفت على وجهه، فلاحت ظلالها في عيون الرفاق، فأحزنهم مرآه وفاضت نفوسهم بالرثاء له والحدب عليه، وودوا لو استطاعوا أن يواسوه ويرفعوا عنه وَقْر الذكريات، فأحاطوا به وعيونهم تنطق بكلمات الحب والإشفاق، ولكنهم احترموا صمته وأساه فلم يحركوا ألسنتهم بكلمة.
وظلت أفكار الشاعر شاردة كأنما هي ضائعة في الفضاء، فطفقوا يثيرون انتباهه إليهم، ويحاولون أن يشعروه بأنهم حوله حتى يعود إلى حاضره وهو غارق في لجج الماضي، يفكر في المرأة التي أحبها وأحبته، ويلمح وجهها طالعاً عليه من كل صوب، ويرى عينيها اللتين جعلهما مرآة تتجلى فيها ألوان العواطف: فهما