تضحكان بلا صوت، وتبكيان بلا دمع، وتغضبان وترضيان، وتعطيان وتمنعان! وإن من الجمال لما يثير الشهوة وينطق بلغة الغريزة، ولكن جمال «نُعم» يثير الحنان والعطف ويهيج في النفس الحب، فتفنى حاجات الجسد في مطالب الروح، ويرفع إلى عالم كله طهر، وينسى من يراه دنياه حين تغمره لذات هذه الدنيا الصغيرة من الجمال، ويجمع أهواءه المتفرقة في هوى واحد؛ هو القرب منها، والاطمئنان إليها، والفناء فيها.
وجعل يطوف بالحي طواف العابد المتنسك بالبيت الحرام، يخيل إليه الوهم أن الحبيب دانٍ والشملَ مجتمعٌ. ثم صحا وانتبه، فإذا يده صفر من هذا النعيم كله، وإذا الحياة قد ماتت في الحي، وخرب العمران، وامّحت صفحة من أمتع صفحات الحب والجمال فلم يبقَ منها إلا بقايا سطور. هنا كانت خيمة الحبيبة مهوى أمانيه وكعبة آماله، وكان نعيمه كله في أن يجلس فيها مع «نُعم» فتناجيه بأسرارها وتفتح له قلبها، ويبيحها أسراره ويكشف لها عن قلبه، وتلك هي غاية ما يبلغه المتحابّون:
أيّامَ تخبرني نُعْمٌ وأخبرها ... ما أكتم الناس من حاجي وأسراري
وهنا كان موقد أهلها؛ طالما جالسها عنده تأنس روحه بقربها، ويحيا فؤاده بنجواها، وينتعش قلبه بأنفاسها التي لو لامست حرارتها الجلمد لوهبته الحياة، فكيف بقلب الشاعر! فلم يبق من خيمة الحبيب إلا هذه الحفرة التي كانت تحف بها تمنع عنها المطر، ولم يبق من موقدها إلا تلك الحجارة السود!
وتبلجت الحقيقة للشاعر المسكين، وانتابه الخجل مما حمل