وطفق يضحك ضحكاً مروعاً أجفل منه الرفاق وأمسكوا قلوبهم بأيديهم، وحبسوا أنفاسهم حزناً على الشاعر الذي جن حقاً، وجعل يعانق شيئاً يتوهمه في الفضاء. ثم سكت فجأة وجذب رفيقه الحارث إليه، فجعل يشير له إلى بقعة غامضة في الفضاء ويقول له:
فيحار الحارث ولا يدري بماذا يجيب وهو لا يرى برقاً ولا يبصر شيئاً، ولا يقدر أن يفجع الشاعر بأحلامه فيزيده جِنة، فيسكت ملتاعاً.
.... .... .... .... .. .... أم وجهُ نُعْمٍ بَدا لي؟ أم سَنا نارِ؟
ويسكن الشاعر ويعلو وجهَه إشراقٌ وابتسام، فيسير مرحباً وهو يهمس همساً ناعماً فرحان مبتهجاً:
بل وجهُ نُعْمٍ بَدا والليل معتكرٌ ... فلاحَ من بينِ أثوابٍ وأستارِ
ويغمر حسَّه خيالُ نُعمٍ ويملأ خواطره وشعوره، ويرى عينيها فيحس كأنما دارت به الأرض وهو يحدق فيهما، ثم أسرعت في دورانها، ثم اختفت بما عليها ولم يبقَ في الوجود إلا عينان قال الله كونا فكانتا. وخالط نفسَه الميلُ إليها والرهبة منها، والرغبة في امتلاكها وإفنائها فيه والاستسلام إليها والفناء فيها، واختلطت عليه المشاعر فلم يعد يعي شيئاً إلا أنه يعيش مرة ثانية في الماضي الحبيب، فأعاد طوافه بالربوع التي كانت مهد غرامه وجنة أحلامه، والرفاقُ ينظرون إليه ولا يقدرون له على شيء، وطيف «نُعم»