قد بعث الله لهم بعدُ من يعلّمهم أن المجد في إعلاء كلمة الله لا في قتل بني العمومة ونهب أموالهم، ولم يكن قد جاء من يقودهم إلى قرطبة من هنا والسند من هناك، فيكتبوا تاريخهم في سطر طويل يمتد من الأندلس إلى الصين عنوانه:«لا إله إلا الله محمد رسول الله»، {إنّ اللهَ يَأمُرُ بالعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتاءِ ذي القربى، ويَنْهى عن الفَحْشاءِ والمُنْكرِ والبغي}.
وخلال ذلك ربائب البيوت يهيئن الحياة الرغيدة لأولئك الفرسان البهاليل، فلا تجد في الربع إلا عاملاً كادحاً لا ينسيه الحب أماني المجد ولا يسليه المجد عن أحلام الحب.
فلم يلقَ الشاعر من هذا العالم كله الذي خلفه يوم ارتحل إلا الحجارة التي كانت موقد النار، وهذا النبت الضعيف الواني الذي لا تحمله سوقه، فيمتد على الأرض عاجزاً:
فما وجدتُ بها شيئاً ألوذُ بِهِ ... إلا الثّمامَ وإلا مَوْقد النّارِ
* * *
وكأن الشاعر قد اختبل ولم تحمل أعصابه هذا الهول كله، وعرته جِنّة فانطلق ينادي وهو هائم على وجهه في الربع المقفر: نُعْمَ، يا نُعم! هأنَذا أتيت فتعالي. لقد جئتك بأمتع أحاديثي وأجمل أشعاري، يا نعم! ما لك لا تجيبين؟ لقد طفت بالربع كله، جست خلال الخيام وأممت التل، وألممت بالوادي وجثوت عند الصخرة، فوجدت ندى الحب ولمحت طيف الذكرى وشممت عطر الماضي الحلو، ولكني لم أجدك أنت. فأين أنت يا نعم؟