لقد كنت في نعيم مع «نُعْمٍ»، فما لي أجد هذا النعيم أحلى كلما أوغل في البعد عني؟ ما لي أحنّ إلى الماضي كله وأرى سعادتي فيه أكبر كلما أُلقيَتْ بيني وبينه من الأيام سُجُفٌ وأستار؟ ما لي تلذّني مآسيه وتؤلمني أفراحه؟ ألأني فقدتُها وخرجت من يدي؟
ماذا عندك يا دار؟ خبري! يا أسفي!
فاستعجمَتْ دارُ نُعمٍ ما تكلّمُنا ... والدار لو كلّمَتْنا ذاتُ أخبار
* * *
وراجع الشاعرَ كربُه وأساه. لقد ترك الدار تفيض بالحياة وتضج بالأحياء، تعيش للحب والحرب. وتلك هي حياة العربي في جاهليته؛ وقْفٌ على قلبه وسيفه، فإذا احتضن الجبل شمسه الغاربة اجتمع الحي على الغدير، فتشرق فيه شموس جمة وأقمار من كل فاتنة الطرف غضة الإهاب ذات حسن غير مجلوب، فتدور سوق الغرام وينشأ الحب، ويعيش هذا المولود قوياً مدللاً وإن لم يستكمل مدة حمله، وينمو طاهراً لا تعلق به ريبة ولا يدنّسه خاطر سوء، غذاؤه النظر والكلام؛ هو حب الصحارى لا يعيش في المدن ولا يدري به علماؤها! وإذا أصبح الصباح، وأضحى الضحى وتسعرت الشمس وتلظت، وبدا الموت من وراء الرمال المتأججة كالحَ الوجه كاشراً عن نابه ... عصفت في الحي صرخات فرسانه الذين لا تثنيهم الهواجر عما نذروا نفوسهم له من المجد، يطيرون بخيولهم إلى الفلوات الفيح والبيد القفار، يحملون لبني العمومة الموت الأحمر على ظبا الأسنة وشفار السيوف. لم يكن