فقصرت همم أتباعهم إلا قليلا منهم, فقلدوا ولم ينظروا فيما نظر فيه المتقدمون من الاستنباط من الأصلين الكتاب والسنة, بل صارت أقوال أئمتهم بمنزلة الأصلين, فأخذوها مسلمة مفروغا منها, ففرعوا عليها, واستنبطوا منها, ولم يبق لهم نظر إلا فيها, وأعرضوا عن علوم الأصلين, فعدم المجتهدون, وغلب المقلدون, حتى صاروا ممن يروم رتبة الاجتهاد يعجبون, وله يزدرون, وكثر التعصب للمذاهب, وقلت النصفة وبانت المثالب, ودبت بينهم العقارب, فجرى من بعضهم في بعض العجائب والغرائب, وآل بهم التعصب إلى أن صار أحدهم إذا أورد عليه شيء من الكتاب والسنة الثابتة على خلاف مذهبه يجتهد في دفعه بكل سبيل من التأويل البعيد نصرة لقوله, وإعراضا عما يجب عليه الأخذ به, ولو كان ذلك وصل إلى إمامه الذي يقلده هذا المتعصب لقابله ذلك الإمام بالتعظيم والتبجيل, ولصار إليه إن لم يعارضه دليل.
ثم تفاقم الأمر حتى صار كثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث, ويعيبون من يعتني بهما, ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه, وتقدمته بين يديه, من الاحتجاج للمذاهب بالآراء, وكثرة الجدال والمراء, فينقضي منهم المجلس بعد المجلس لا يسمع فيه آية تتلى, ولا حديث يروى, وإن اتفق ذكر شيء من ذلك لم يكن في المجلس من يعرف صحيحه من سقيمه, ولا إيراده على وجهه ولا فهم معناه. وغرض كل منهم