للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ؛ فَإِنَّهُ شَبَّهَ تَمْزِيقَ عِرْضِ الْأَخِ بِتَمْزِيقِ لَحْمِهِ، وَلَمَّا كَانَ المُغْتَابُ يُمَزِّقُ عِرْضَ أَخِيهِ فِي غِيبَتِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقْطَعُ لَحْمَهُ فِي حَالِ غِيبَةِ رُوحِهِ عَنْهُ بِالمَوْتِ، وَلَمَّا كَانَ المُغْتَابُ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهِ بنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ ذَمِّهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ المَيِّتِ الَّذِي يُقَطَّعُ لَحْمُهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْأُخُوَّةِ التَّرَاحُمَ وَالتَّوَاصُلَ وَالتَّنَاصُرَ فَعَلَّقَ عَلَيْهَا المُغْتَابُ ضِدَّ مُقْتَضَاهَا مِنْ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالطَّعْنِ كَانَ ذَلِكَ نَظِيرَ تَقْطِيعِ لَحْمِ أَخِيهِ، وَالْأُخُوَّةُ تَقْتَضِي حِفْظَهُ وَصِيَانَتَهُ وَالذَّبَّ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ المُغْتَابُ مُتَفَكِّهًا بِغِيبَتِهِ وَذَمِّهِ مُتَحَلِّيًا بِذَلِكَ شُبِّهَ بِآكِلِ لَحْمِ أَخِيهِ بَعْدَ تَقْطِيعِهِ، وَلَمَّا كَانَ المُغْتَابُ مُحِبًّا لِذَلِكَ مُعْجَبًا بِهِ شُبِّهَ بِمَنْ يُحِبُّ أَكْلَ لَحْمِ أَخِيهِ مَيْتًا، وَمَحَبَّتُهُ لِذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ أَكْلِهِ، كَمَا أَنَّ أَكْلَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى تَمْزِيقِهِ.

فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ وَحُسْنَ مَوْقِعِهِ وَمُطَابقَته المَعْقُول فِيهِ المَحْسُوسَ، وَتَأَمَّلْ إخْبَارَهُ عَنْهُمْ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ مَيْتًا، وَوَصْفَهُمْ بِذَلِكَ فِي آخَرِ الْآيَةِ، وَالْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِهَا أَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ فِي طِبَاعِهِمْ فَكَيْفَ يُحِبُّونَ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ.

فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا كَرِهُوهُ عَلَى مَا أَحَبُّوهُ، وَشَبَّهَ لَهُمْ مَا يُحِبُّونَهُ بِمَا هُوَ أَكْرَهُ شَيْءٍ إلَيْهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنْهُ؛ فَلِهَذَا يُوجِبُ الْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ وَالْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونُوا أَشَدَّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَمَّا هُوَ نَظِيرُهُ وَمُشْبِهُهُ، وَبِالله التَّوْفِيقُ (١).

* * *


(١) «إعلام الموقعين» (٢/ ٢٩٦ - ٢٩٧).

<<  <   >  >>