للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رجع العلامة غوستاف لوبون هذه العوامل، خلا ما تقدم، إلى بيئة العرب وذكائهم اللامع وخيالهم الخصب وحيويتهم، وقال:

لم يلبث العرب بعد خروجهم من صحاري جزيرتهم أن وجدوا أنفسهم أمام ما بهرهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية، وأن أدركوا تفوقها الثقافي، كما أدركوا تفوقها الحربي فيما مضى، فجدوا، من فورهم؛ ليكونوا على مستواها.

ويتطلب استمراء حضارة راقية ذكاءً مثقفاً ... وقد أثبتنا أن العرب كانوا أيام الرسول ذوي ثقافة أدبية رفيعة.

والحق أن الرجل المثقف قد يجهل أموراً كثيرة، وإنما يتعلمها بسهولة؛ لما فيه من الاستعداد الذهني، وقد أظهر العرب في دراسة العالم، الجديد في أعينهم، من الحماسة كالاستعداد، الذي أبدوا لفتحه.

ولم يتقيد العرب في دراسة تلك الحضارة، التي واجهتهم فجأةً، بمثل التقاليد التي أثقلت كاهل البيزنطيين منذ زمن طويل، فكانت الحرية من أسباب تقدمهم السريع ... ولم يلبث أن تجلى استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة، وقد رأينا أنه لم يمض سوى وقت قصير حتى طبعوا على فن العمارة وسائر الفنون، ثم على مباحثهم العلمية، طابعهم الخاص الذي يبدو أول وهلةٍ في آثارهم.

وقد استدل لوبون على أن العرب خرجوا من جزيرتهم أصحاب ذكاء مصقول من عجز البرابرة الذين قضوا على الدولة الرومانية، ومن عجز الترك والمغول الذين قضوا على الدولة العربية عن إبداع أية حضارة لعقولهم الغليظة، مع توافر عوامل البيئة، فقال:

يبدو لنا الفرق بين الأمم التي تكون على جانب كبير من الذكاء، كالأمة العربية والأمم المنحطة، كبرابرة القرون الوسطى الذين قضوا على دولة الرومان، وأجلاف الترك والمغول الذين غمر طوفانهم دولة محمد.

فلقد أبدع العرب من فورهم، بعد أن استعانوا بحضارة اليونان وحضارة الرومان وحضارة الفرس، حضارةً جديدة أفضل من الحضارات التي جاءت قبلها، وكانت عقول البرابرة عاجزةً عن إدراك كنه الحضارة التي قهروا أهلها، وكان انتفاعهم بها ممسوخاً في بدء الأمر، ولم يسيروا بها نحو الرقي إلا بعد أن صقلت أدمغتهم فصارت قادرةً على إدراك معانيها بعد زمن طويل.

<<  <   >  >>