يعرف قراء كتبنا السابقة مضامين هذا السفر الجديد، ويعلمون أننا سندرس تاريخ الحضارات بعد أن بحثنا في الإنسان والمجتمعات.
كان كتابنا السابق وقفاً على وصف ما اعتور جسم الإنسان وعقله من التطور المتتابع، وعلى بيان العناصر التي تتألف المجتمعات منها، وقد رجعنا فيه إلى أقدم أدوار الماضي، وأوضحنا فيه كيف نشأت زمر الإنسان الأولى، وكيف تولدت الأسر والمجتمعات والصناعات والفنون والنظم والمعتقدات، وكيف تحولت هذه العناصر بتوالي الأجيال، وبينا فيه عوامل هذا التحول.
وإننا، بعد أن بحثنا في الإنسان وهو منفرد وفي تطور المجتمعات، نرى أن نطبق قواعدنا التي بسطناها هنالك على الحضارات العظيمة إكمالاً لبرنامجنا.
إن العمل لواسعٌ، وإن مصاعبه لكثيرةٌ، وإذ كنا لا نبصر مداه الآن عزمنا على جعل كل مجلد منه تاماً مستقلاً، فإذا انتهينا من المجلدات الثمانية أو العشرة الباحثة في تاريخ مختلف الحضارات وتمت بذلك غايتنا هل ترتيبها ترتيباً علمياً.
وبالعرب بدأت، وسبب ذلك: أن حضارتهم من الحضارات التي اطلعت عليها في رحلاتي الكثيرة أحسن مما اطلعت على غيرها من الحضارات التي كمُل دورها، وتجلى فيها مختلف العوامل التي أوضحنا سرها في ذلك الكتاب، وهي من الحضارات التي نرى الاطلاع على تاريخها مفيداً إلى الغاية وهو أقل ما عرفه الناس.
وتسيطر الحضارة العربية، منذ اثني عشر قرناً، على الأقطار الممتدة من شواطئ المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، وعن شواطئ البحر المتوسط إلى رمال إفريقية