للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالذي يحدُث في حياة الأمم، في الغالب، هو أن تأثير الماضي يُعَبِّد الناس لنِير التقاليد المسنة بعد نفعه لهم، ويمنعهم من كل تقدم.

ولم يلبث أن تجلَّى استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة، وقد رأينا أنه لم يمض غير وقتٍ قصير حتى طبعوا على فنِّ العمارة وسائر الفنون، ثم على مباحثهم العلمية، طابَعهم الخاص الذي يبدو في آثارهم أول وهلة، وأنهم لم يبالوا بفلسفة اليونان النظرية لملاءمتها القليلة لمزاجهم النفسي، وأن همَّهم كان مصروفاً إلى الفنون والعلوم والآداب على الخصوص، فوصفنا بدرجة الكفاية ما ابتكروه في هذه الفروع الكثيرة.

تلك هي أسباب عظمة العرب السياسية، ولنبحث الآن في أسباب انحطاطهم.

[(٢) أسباب انحطاط العرب]

يمكن الاستنادُ إلى كثير من العوامل التي ذكرنا أنها من أسباب عظمة العرب في بيان انحطاطهم، ويكفي أن ننظر إلى عامل الزمن المهم؛ لنعلم أنه ينشأ عن أنفع صفات الأفراد والأمم في أحد الأزمنة أسوأ النتائج في زمن آخر، وأن الاستعداد الخُلقي أو الذهني الذي يكون عامل نجاح في أحد الأوقات حتماً يكون عامل حبوطٍ وإخفاق في وقت ثانٍ.

ولقد بَينْتُ سابقاً كيف أن غرائز العرب في الحرب والخصام، التي كانت نافعة في دَوْر فتوحهم، لم تلبث أن أصبحت ضارةً بعد انقضائه وخُلُو الميدان من أعداء يحاربونهم، وذلك أن العرب، بعد أن تمَّت فتوحهم، أخذ ميلهم المتأصل إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ حتى سقطت، وذلك كما حدث لهم في إسبانية وصقلية اللتين أضاعوهما بفعل انقساماتهم الداخلية على الخصوص، واللتين أجلاهم النصارى عنهما بسبب تنافسهم الدائم فيهما.

ويمكن عد نُظم العرب السياسية والاجتماعية، التي ذكرنا أنها من أسباب تقدمهم السريع، من عوامل انحطاطهم أيضًا، وبيان ذلك: أن العرب لم يقدروا على فتح العالم إلا حينما خضعوا للشريعة الجديدة التي جاء بها محمد، وجمعوا كلمتهم المتفرقة تحت لوائها، وهي التي كان يمكنها وحدها أن تجمع القوى المبعثرة في جزيرة العرب، وقد بَقِي نير هذه الشريعة الحازم طيباً ما بَقيت نظم النبي ملائمة لاحتياجات أمته، فلما أصبح تعديل هذه النظم ضربة لازبٍ، بسبب مبتكرات حضارة العرب، كان نير التقاليد من الثِّقل بحيث لا يمكن زحزحته.

<<  <   >  >>