وها هي ذي عدة قرون مضت على ذلك الدور من غير أن تستطيع إسبانية أن تنهض من هبوطها مع ما بذل من الجهود، وقد صار عدد سكان طليطلة في الوقت الحاضر ١٧٠٠٠ بعد أن كان ٢٠٠٠٠٠ أيام الحكم العربي، وقد أصبح عدد سكان قرطبة في الوقت الحاضر ٤٢٠٠٠ بعد أن كان مليوناً أيام الحكم العربي؛ ولم يبق من مدن ولاية شلمنقة، التي كان عددها أيام الحكم العربي ١٢٥ مدينة، سوى ١٣ مدينة.
وسيرى القارئ في الفصل الذي خصصناه للبحث في وارثي العرب مقدار الانحطاط الذي أسفر عن إبادة العرب، وإذا كنت قد أشرت إلى هذا هنا فلأن شأن العرب المدني لم يبد في قطر ملكوه كما بدا في إسبانية التي لم تكن ذات حضارة ذكر قبل الفتح العربي؛ فصارت ذات حضارة ناضرة في زمن العرب، ثم هبطت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب، وهذا مثال بارز على ما يمكن أن يتفق لعرق من التأثير.
[(٣) حضارة العرب في إسبانية]
كانت إسبانية النصرانية ذات رخاء قليل وثقافة لا تلائم غير الأجلاف في زمن ملوك القوط، ولم يكد العرب يتمون فتح إسبانية حتى بدأوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويعمروا خرب المدن، ويقيموا فخم المباني، ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، وينشؤون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربة زمناً طويلاً.
وأخذت حضارة العرب تنهض منذ ارتقاء عبد الرحمن إلى العرش على الخصوص، أي منذ انفصال إسبانية عن المشرق بإعلان خلافة قرطبة في سنة ٧٥٦ م، فغدت قرطبة، بالحقيقة، أرقي مدن العالم القديم مدة ثلاثة قرون.
ولم يكد عبد الرحمن يقبض على زمام الحكم في إسبانية حتى أخذ يسعى في حمل العرب على عد إسبانية وطناً حقيقياً لهم، فأنشأ جامع قرطبة الشهير الذي هو من عجائب الدنيا؛ لتحويل أنظار العرب عن مكة، وصار ينفق دخل بيت المال في إصلاح البلاد وعمرانها بدلاً من إنفاقه في الغزوات البعيدة، ثم سار خلفاؤه على سنته في ذلك.
وامتازت حضارة العرب في إسبانية في ذلك الدور بميل العرب الشديد إلى الفنون والآداب والعلوم على الخصوص، وأنشأ العرب في كل ناحية مدارس ومكتبات ومختبرات،