وزعم مؤلف أحد المعجمات الاشتقاقية الفرنسية الذي ألُّف حديثاً أن إقامة العرب بجنوب فرنسة لم تُسفر عن أثر، لا في اللهجات، ولا في اللغة، فقلةُ قيمة هذا الرأي تبدو مما قلناه آنفاً، ومن العجيب أن يكرر بعض المثقفين مِثل هذا الزعم.
واللغة العربية غنية جداً، وزاد غناها بما أضيف إليها، دائماً، من التعابير الجديدة التي تسربت فيها من اللهجات التي اتصلت بها، وانظر إلى المعجم الذي ألَّفه ابن سِيده المتوفىَّ سنة ١٠٦٥ م تجده مشتملاً على عشرين مجلداً.
[(٢) فلسفة العرب]
كانت فلسفة العرب، حينما شرعوا يَدخلون ميدان الحضارة، مقتصرةً على مبادئ علم النفس العملية التي هي وليدةُ التجربة، لا الكتب، والتي ينتفع الإنسان بها وحدها في مضمار الحياة.
واليونان هم أساتذة العرب الأولون في الفلسفة كما أنهم أساتذتهم في مختلف العلوم، ولم تلبث كتب أرسطو وثاليس وأبيذقليس وهرقليوس وسقراط وأبيقور وجميعِ أساتذة مدرسة الإسكندرية من الفلاسفة أن تُرجِمَت.
وفاق العرب أساتذتهم بسرعة في جميع العلوم التي تقوم على التجربة، ولكن بما أن الفلسفة لم تقم حينئذ على التجربة وما إليها لم يتَّفق للعرب فيها تقدم محسوس.
وكانت الجماهير تَمْقُت الفلاسفة مع ما تم لهم من المقام الأسمى في جامعات العرب، وكان الخلفاء يَرَون أن يَدْرَأوُا ما ينشأ عن مذاهب الفلاسفة من الفتن الشعبية فيُضطرون في الغالب إلى نفيهم لوقت معين.
وللجماهير ما تعتذر به عن معارضتها للفلاسفة، فقد نَبَذ الفلاسفة أكثر أحكام الإسلام، ولم يُسلموا بغير العقائد الأساسية كوحدانية لله ورسالة محمد، ثم كانوا ينشرون آراءَهم علناً، ويهاجمون بها عقائد المؤمنين بدلاً من الاكتفاء بعرضها على المثقفين.
والحق يقضي بالاعتراف للعرب بأنهم أولُ من أغضى عما نُسمِّيه حرية الفكر في الوقت الحاضر، فمع ما كان يبديه الفلاسفة من التحفظ الكبير في كتبهم كانت تَبْدُر منهم، في الغالب، تأملاتٌ مشتملة على جانب كبير من الشك والارتياب، ومن ذلك قولُ أبي العلاء التَّنُوخيِّ الذي عاش في القرن العاشر من الميلاد: