وقفنا هذا الفصل وما يليه في فصول هذا الباب على البحث في شأن العرب في مختلف البلدان التي استولوا عليها، وغايتنا من ذلك بيان حضارة العرب بياناً مجملاً، وإيضاح تأثيرهم في الأمم التي عاشروها، وتأثير هذه الأمم فيهم، ونرى أن نقدر حضارة العرب بالبحث في آثارهم في كل بلد افتتحوه، فإذا تيسر لنا ذلك أمكننا أن ندرس، في فصول هذا الكتاب، مختلف العناصر التي تتألف من مجموعها حضارة العرب.
كانت أمم البلاد التي استولى العرب عليها في آسية وإفريقية وأوربة وأقاموا عليها دولتهم العظمى متباينة أشد التباين حين الفتح العربي، فأنت، إذ كنت ترى بينها أمماً من أنصاف البرابرة، كالتي في بعض أجزاء إفريقية، كنت ترى منها أمماً بلغت الذروة من الحضارة اليونانية والحضارة اللاتينية كالتي في سورية.
إذن، كانت الأحوال التي صاقبت العرب مختلفة باختلاف الأماكن، وكان من الحق أن يجد الإنسان تفاوتاً في درجات حضارتهم تبعاً لتفاوت البيئات.
ذلك ما يتجلى لنا في تاريخ حضارة العرب كلما توغلنا في تفصيلاته، وتشتمل حضارة العرب التي دامت ثمانية قرون على درجات كثيرة خلافاً لما ذهب إليه المؤرخون الذين تعودوا، حين البحث في حضارة العرب، أن ينظروا إليها من خلال أمة واحدة ودور واحد، وكان للعمارة والآداب والعلوم والفلسفة والدين درجات تطور مختلفة باختلاف الأقطار التي خضعت لسلطان العرب، ولم يمنع ذلك من أن يكون للعرب تراث مشترك من الناحية الدينية والناحية اللغوية ما دام الإسلام دينهم والعربية لغتهم، ولكن وحدة اللغة والدين لا تعني وحدة حضارة العرب في مختلف البلدان التي خضعت