ورد إلى كتاب أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، يسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين، أن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر مبارك الغدوات، ميمون الروحات، يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان، يدر حلابه، ويكثر عجاجه، وتعظم أمواجه، فتفيض على الجانبين، فلا يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن المخايل، أو ورق الأصائل، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبه كأول ما بدأ في جريته وطما في درته، فعند ذلك تخرج ملة محقورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لقيهم ما سعوا من كدهم، فناله عنهم أناس بغير جدهم، فإذا أشرق الزرع وأشرف، سقاه الندا، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، فإذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق ما يشاء، والذي يصلح هذه البلاد ويقر قاطنها فيها ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال على هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله يوفق إلى حسن الحال.
وقد يكون نهر النيل الذي فيه سر غنى مصر سبب بؤسها، فإذا ما كان فيضانه دون الدرجة الكافية ضربت المجاعة أطنابها في مصر، وإذا دام القحط في مصر عدة سنين لم يبق أمام الكثيرين من الفلاحين سوى الموت جوعاً، ومن ذلك القحط الهائل الذي نكبت به مصر سنة (٤٦٢ هـ/١٠٦٩ م) أيام الحكم العربي، فقد روى مؤرخو العرب أنه حين نقص فيضان النيل عن درجة الكفاية خمس سنين متتابعة، وتعذر جلب القمح من الخارج بسبب الحروب الكثيرة التي كانت تقع في تلك السنين بلغت المجاعة في مصر مبلغاً صارت تباع معه البيضة الواحدة بخمسة عشر فرنكاً والهرة الواحدة بخمسة وأربعين فرنكاً، وأن الناس أكلوا في أثناء تلك المجاعة جمال الخليفة وأفراسه التي كان عددها عشرة آلاف، وأنهم رموا في إبانها وزير الخليفة عن ظهر بغلته حينما كان ذاهباً إلى الصلاة في المسجد فذبحوها وأكلوها على مرأى منه، ثم أكلوا جثث الذين قتلوا بسبب