ومع ذلك، يجب أن يعترف بأن العرب أقل تحولاً من الأوربيين بين قرن وقرن، ولم ينشأ استقرارهم العتيد عن زوال حضارتهم فقط، بل نشأ، أيضاً، عن كون القرآن دستور المسلمين الديني والسياسي والمدني على الخصوص، وعن أن ثبات أي أمر من هذه الأمور الثلاثة المتماسكة كان يوجب ثبات الأمرين الآخرين بحكم الضرورة، وهكذا لم يلبث المسلمون أن رأوا أنفسهم مقيدين بسلسلة من التقاليد والعادات التي تأصلت بحكم الوراثة، فأصبحت من الرسوخ بحيث لا تؤثر فيها الزعازع، وهكذا كادت طبائع أكثر العرب وعاداتهم تكون ثابتةً لا تتبدل منذ قرون، وهكذا أصبح من الممكن تمثل حياتهم الماضية بدرس حياتهم الحاضرة.
وكان تحول أهل الأرياف والبدو من العرب، على الخصوص، ضئيلاً، وكان تحول أهل المدن الذين انتابهم الفاتحون أظهر من ذلك، ولكن هؤلاء الفاتحين إذ اتخذوا القرآن دستوراً لهم، وكان القرآن نافذاً في أدق شؤون العرب لم تتغير طبائع العرب وعاداتهم إلا قليلاً، وحاضر العرب، وإن لم يكن، لذلك التحول القليل، صورة تامة عن ماضيهم، يكفي لتمثله مع ذلك.
وبما أنه يوجد لحياة العرب الاجتماعية صور مختلفة باختلاف حياتهم البدوية أو الريفية أو الحضرية دائماً، فقد رأينا أن ندرس كل واحد من هذه الوجوه على حدة.
[(٢) حياة أهل البدو من العرب]
لقد وصفنا سجايا أهل البدو من العرب بما فيه الكفاية، ولا نرى أن نعود على ذلك مرة أخرى، وإنما نتم الآن ما قلناه في فصل آخر بأن نصف معايشهم من الناحية المادية: إن بيان عادات أولئك الأعراب وطبائعهم أسهل من بيان عادات سكان الأرياف والأمصار وطبائعهم، وذلك أن حياة الأعراب بسيطة إلى الغاية، وأنها طليقة من تلك الزيادات المعقدة التي أوجبها الاستقرار والتوطن، وفي الوصف الآتي الذي أقتطفه من كتاب لكوست تصوير كاف لعادات الأعراب، أجل؛ إن كوست صور بهذا الوصف قبائل صحاري وادي النيل العربية منذ خمسين سنة، ولكن ما تسفر عنه حياة الصحراء من تبدل قليل في المعايش يجعل ذلك الوصف صالحاً لتمثل الأعراب المعاصرين لسليمان، أو المعاصرين لمحمد، أو الذين سيولدون بتعاقب الأجيال إلى أن تبدل الأرض غير الأرض، وتكون آسية وإفريقية خاليتين من الصحاري، قال كوست: يمتطي الأعرابي صهوة فرسه وقت الفجر، ولا يرجع إلى خيمته إلا وقت الغروب، ويغذي الأعرابي في النهار