وليس من الصعب أن نَتَمَثل الحال التي كان عليها المجتمع العربي أيام ازدهار حضارة أتباع النبي بطريق البحث في حالة المجتمع العربي الحاضرة وفي حوادث الماضي، فقد دل وصفنا لحاضر العرب في مختلف الأقطار التي كانوا سادة لها على أن ما يشاهَد من أنُسهم وتسامحهم كان يشاهد أيام حضارتهم أيضاً، وقد وصفنا طبائعهم النبيلة وفروسيتهم، ورأينا أن أوربة المتبربرة اقتبستهما منهم.
وإن ما نراه خاصاً بالطبقات الأوربية العليا من الأدب والوقار، هو من الأمور الشائعة بين مختلف طبقات الشرق كما أجمع عليه السياح، وإليك ما قاله الفيكولت فوغيه عندما تكلم عن تزاور أفقر طبقات العرب:«لا يسعني سوى الإعجاب بما يسود اجتماعات أولئك القَرَويين الفقراء من الوقار والأدب، وما أعظم الفرق بين اتزان أقوالهم ونُبْل أوضاعهم ولَغَط بني قومنا ووقاحتهم! »
وأتيح لي، غير مرة، أن أتصل بكثير من العرب في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فقضيت العجب في كل مرة من الوقار والترحاب اللذين كان يستقبلني بهما أناسٌ لا تعلو طبقتهم الاجتماعية طبقة فلاحي أوربة، لا فرق في ذلك بين أن يكون رب البيت فقيراً أو غنياً، وذلك أن الواحد منهم يتقدم نحوك ليُحَيِّيَك على الطريقة الشرقية، أي بوضع يده على صدره وجبينه، وليدعوك إلى الجلوس على متكأ في صدر البيت المقابل للباب، ثم يعرض عليك سيغارة أو نارجيلة للتدخين وقهوة للشرب، وينتظر منك بأدب أن توضح له سبب زيارتك.
[(٢) المدن العربية، البيوت، الأسواق ... إلخ]
[(٢ - ١) المدن العربية]
يكفي كثير من المدن العربية الحاضرة، كدمشق وبعض الأحياء في القاهرة؛ لتصور ما كانت عليه المدن العربية في سالف الأزمان، وقد تكلمتُ عن منظر شوارعها الملتوية المشوشة غير مرة، ولا فائدة في الرجوع إلى ذلك الآن، وإذا ما أغضَيْتَ عن المدن الشرقية التي تلمس فيها نفوذ الأوربيين، كالمدن الساحلية السورية مثلاً، رأيت شبهاً عظيماً بين مدن الشرق قاطبة، فالسائح الذي ينتقل إليها فجأةً بقوة ساحر يَعْلَم من فوره حقيقة الجزء الذي هو فيه من الكرة الأرضية.