وعاشت دولة الحيرة أربعمائة سنة، أي مدة تعد طويلة لدولة، ولم ينته إلينا من أنبائها إلا الشيء القليل، وخضعت في سنة ٦٠٥ م للدولة الساسانية، وظلت مرزبةً فارسيةً إلى أن جاء محمدٌ بعد قليل زمن، ودك خلفاؤه دولة الأكاسرة، واستولوا على بلاد فارس.
ظهر مما تقدم أن جزيرة العرب نجت من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية، وأن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن انتهبوا العالم لم ينالوا شيئاً من جزيرة العرب التي أوصدت دونهم أبوابها.
نعم، إن جزيرة العرب كانت حين ظهور محمد تحت خطر الغزو الأجنبي المرهوب، وإن الأحباش استولوا في سنة ٥٢٥ م على اليمن التي لم تدن لغير ملوك العرب فيما مضى، وإن الأحباش حاولوا أن يحملوا العرب على التنصر؛ فاستطاعوا تنصير بعض القبائل العربية، وإن الفرس طردوا الأحباش من اليمن في سنة ٥٩٧ م، أي قبل ظهور محمد بقليل؛ فأضحى للفرس مرازبة في اليمن وحضرموت وعمان، غير أن ذلك كله كان لأجل قصير، ولم يصب بلاد نجد والحجاز الواسعة منه شيءٌ.
إذن، من الصواب قولنا: إن القسم الأكبر من جزيرة العرب هو القسم الوحيد الذي لم تطأه أرجل الفاتحين من بلاد العالم المتمدن على ما يحتمل.
[(٣) حضارة جزيرة العرب قبل ظهور محمد]
يقص علينا بنو إسرائيل بعض الأخبار عن تجارة العرب ومدنهم، ولا سيما مدينة سبأ في اليمن، ولكن قصصهم خالية من الأسانيد، وإن دلت على وجود مدن عربية عظيمة في أقدم العصور.
ووصف هيرودوتس، قبل المسيح بنحو أربعمائة سنة، بلاد العرب السعيدة بأنها من أغنى بقاع العالم، وأنه كان في مأرب، أو سبأ التي ورد ذكرها في التوراة، قصور نضرة ذات أبواب عسجدية، وآنية من ذهب وفضة، وسرر من المعادن الثمينة.
ولم يرو إسترابون غير ما رواه هيرودوتس، واستند إسترابون في روايته عن مدينة مأرب إلى أرتيميدور، وقال:«إن قصورها ذات سقوف مزخرفة بالذهب والعاج والحجارة الثمينة، وذات أثاث فاخر وآنية منقوشة»، ورأى إراتوستين أن بيوتها تشابه بيوت مصر في مجموعها.
وهنالك مطابقةٌ بين ما رواه قدماء المؤلفين وما جاء في تواريخ العرب التي أجمعت على امتداح غنى اليمن، واسمع ما قاله المسعودي حين تكلم عن مأرب: