وقد رأيت تماثلاً بين قطع الفسيفساء التي هيئ لي أن أدرسها في بلاد اليونان وتركية وسورية ومصر ونماذجها التي أتيتُ بها من الكنائس البيزنطية في أثينا ومن أياصوفية في القسطنطينية وجامع عمر في القدس ومساجد القاهرة، أي تتألف قطع الحجارة الملونة، وقطع الزجاج التي يُسفر ضمُّ بعضها إلى بعض عن صور من مكعبات صغيرة يبلغ ضلعُ الواحد منها نحو سنتيمتر، ويشتمل كل صباغ فيها على ثلاثة ألوان، على العموم، صالحةٍ لإحداث تمازج نور وانعكاسه، والمكعبات الحجرية ملونةٌ في جملتها، والمكعبات الزجاجية المعدة لإحداث أساس ذهبي مذهبةٌ في وجهها فقط، وتقوم الطريقة الدقيقة التي اتُّبعت لبقاء تلك الطبقة الذهبية ودوامِها لامعةً على طلاء كل مكعَّب مذهب بطبقة زجاجية رقيقة رقَّةَ الطبقات الزجاجية التي تكون فوق المستحضرات المكروسكوبية في المختبرات، وأرى أن بقاء هذه الطبقة الذهبية مدةَ ألف سنة على حالها الأول حدث بفضل ذلك الطلاء الواقي.
[(٤ - ٧) صناعة الزجاج]
زاولت جميع الأمم الشرقية، ولا سيما الفرس والمصريون، صناعة الزجاج منذ أيام الفينيقيين الذين عُزِيَ إليهم أمر اختراعه، واكتُشِفت في نينوى أدواتٌ زجاجية صُنِعت قبل ظهور المسيح بمدة تترجح بين سبعة قرون وثمانية قرون، ثم سيق صانعو الزجاج في الإسكندرية إلى رومة أيام الرومان، وصنعوا فيها أكواباً زجاجية جميلة مَطليَّةً بالميناء، ولما ظَهَر العرب لم يبقَ لهم، إذن، إلا إتقان تلك الصناعة التي كانت موجودةً قبلهم.
ولم يلبث العرب أن تقدموا في صناعة الزجاج تقدماً عظيماً، كما يشهد بذلك ما انتهى إلينا من أوانيهم المذهبة والمطلية بالميناء، ويمكننا أن نتمثل ذلك بسهولةٍ من إنعام النظر في الصور المبعثرة في هذا الكتاب، ولا سيما لوحة مصابيحِ بعض المساجد.
ويرى كثيرٌ من المؤلفين أن مورانو والبندقية مدينتان لصانعي الزجاج من العرب بطرقهما التي اكتسبتا بها شهرةً كبيرةً في صناعة الزجاج، والعرب من تَعْلَمُ من اتصال البندقية بهم اتصالاً تجارياً مستمراً.