ودامت تلك السياحات الأولى التي قام بها ابن بطوطة أربعًا وعشرين سنة، ولكن ابن بطوطة لم يشعر في أثنائها بتعب، فقد زار بعدها بلاد الأندلس، وأوغل في قلب إفريقية، وانتهى إلى مدينة تنبَكْتُو، وتوفيَّ ابن بطوطة في مدينة فاس سنة ١٣٧٧ م بعد أن طاف، تقريباً، في جميع العالم الذي كان معروفاً في عصره، فرياداتٌ كالتي أتاها تكفي لتمجيد من يقوم بها في زماننا أيضاً.
[(٢) التقدم الذي حققه العرب في الجغرافية]
كان من نتائجِ ريادات العرب ومعارفهم الفلكية التي ذكرتُها أن اتفق لعلم الجغرافية تقدم مهمٌّ، ولا غرو؛ فالعرب الذين اتخذوا في البداءة علماء اليونان، ولا سيما بطليموس، أَدِلَّاء لهم في علم الجغرافية لم يلبثوا أن فاقوا أساتذتهم فيه على حسب عادتهم.
كانت مواضع المدن الكثيرة التي عَيَّنها بطليموس تعييناً جغرافياً غيرَ مطابقة للحقيقة تماماً، وبلغ مقدار غَلَطِه في تعيين طول البحر المتوسط وحده أربعمائة فرسخ.
ويكفي أن نقابل بين الأمكنة التي عينها الأغارقة والأمكنة التي عينها العرب؛ ليظهر لنا مقدار التقدم الذي تم على يد العرب، فهذه المقابلة تدل على أن مقدار بالعرض الذي حققه العرب يَقْرُب من الصحة بما لا يزيد على بضع دقائق، وأن خطأ الأغارقة فيه بلغ درجاتٍ كثيرة.
وكان تعيين الطول صعباً على العرب، وذلك لما يُعْوزُهم في ذلك الحين من مقياسٍ للزمان (كرنومتر) ومن تقاويمَ مضبوطةٍ للقمر فكانت مَغَالِطُهم أظهر من ذلك، وإن لم يَزِد على درجتين إلا نادرًا، أي وإن كانت دون غلط الأغارقة بمراحل.
حقاً إن أغاليط الأغارقة في تعيين الطول كانت فاحشةً في بعض الأحيان، ومنها أن غلِطَ بطليموس، الذي اتخذ الإسكندرية مبدأً للطول، في طول طنجة نحو ١٨ درجةً فجعله ٥٣ درجة و ٣٠ دقيقة بدلاً من ٣٥ درجة و ٤١ دقيقة، ومنها أن جَعَل بطليموسُ في تقاويمه طولَ المحور الكبير للبحر المتوسط الممتد من طنجة إلى طرابلس الشام تسع عشرة درجةً زيادة على الحقيقة، أي ما يَعْدِل أربعمائة فرسخ تقريباً، مع أن غَلَط تقاويم العرب فيه أقلُّ من درجة واحدة.
وكتب العرب التي انتهت إلينا في علم الجغرافية مهمةٌ إلى الغاية، وكان بعضها أساسًا لدراسة هذا العلم في أوربة قروناً كثيرة.