يكفي الإنسان أن ينظر إلى إحدى البنايات التي أقيمت في دور راقٍ من أدوار الحضارة العربية، مسجدًا كان ذلك البناء أو قصراً، أو أن ينظر إلى ما صُنع فيه من دَوَاة أو خِنْجَر أو جلد قرآن؛ ليرى لهذه الآثار طوابع خاصة لا يتطرق الوهم إليه في أصلها، والباحث في مصنوعات العرب، كبيرة كانت أو صغيرة، لا يرى فيها أية صلة ظاهرة بمصنوعات أية أمة أخرى؛ فالإبداع من مصنوعات العرب تام واضح.
والأمر يكون غير ذلك عندما ندرس آثار العرب في بُداءة الحضارة العربية بدلاً من درس آثارهم أيام ازدهارها، فلتلك الآثار صلة واضحة بفنون الفرس والبيزنطيين الذين ظهروا قبل العرب.
ورأى كثيرٌ من العلماء ما بين آثار العرب الفنية الأولى وآثار بعض الأمم الشرقية من صلة؛ فاستنتجوا من ذلك أن العرب لم يكونوا أصحاب فن مبتكر، مع أن الوقع أن كل أمة تنتفع بآثار الأمم التي تقدمتها قبل أن تصبح صاحبة لآثار فنية ذاتية، وذلك كما يقال بَسْكال بحق:«إنه يجب عد سلسلة الآدميين الذين ظهروا بتعاقب القرون إنساناً واحداً حياً في كل زمان محصلاً للمعارف على الدوام»، والواقع أن كل جيل يستفيد في البداءة مما ادخرته الأجيال السابقة، وهو يضيف إليه إذا كان على ذلك من القادرين.
ولم تشذ أمة عن هذه السنة، وليس من الممكن تفسير أمر أمة يزعم عدم اتباعها لها، ومن ذلك أن عدت الحضارة اليونانية، إلى وقت قريب جداً، وذلك حين كانت مصادرها خافية تماماً، أنها غير مدينةٍ بأي شيء للأمم الأخرى، فأثبت العلم الرفيع أن أصول الفن اليوناني مقتبسة من الآشوريين والمصريين، ولا ريب في أن قدماء المصريين أنفسهم أخذوا عن أمم أخرى ظَهَرَت قبلهم، ولو لم نَفْقِد أكثر حلقات السلسلة التي